فرصة للسيسي لتتبّع رؤية السادات وشجاعته

احتفلت إسرائيل ومصر في 26 مارس الجاري بالذكرى السادسة والأربعين لمعاهدة السلام بينهما التي قلبت جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي رأسًا على عقب. ولا تزال مصر محورية في السعي لتحقيق السلام الإسرائيلي – الفلسطيني، لاسيما في أعقاب الحرب بين إسرائيل وحماس.
من الصعب المبالغة في شجاعة الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما زار إسرائيل حاملاً غصن زيتون في نوفمبر 1977. فقبل عقد من الزمن فقط رفض أول رئيس مصري، جمال عبدالناصر، وجود إسرائيل رفضًا قاطعًا، قائلاً “لن نقبل أي تعايش مع إسرائيل.” إن إنهاء حرب يوم الغفران عام 1973 باستعادة سيناء إلى مصر دون تقديم تنازلات تُذكر لإسرائيل مكّن السادات من “إعلان النصر”، ما عزز مكانته في أعين الجمهور وسمح له لاحقًا بالسفر إلى إسرائيل “منتصرًا”. وقد استُقبل في إسرائيل كرجل دولة عظيم يحظى بحرس شرف، ما ترك بصمة لا تُمحى في أذهان الإسرائيليين والمصريين على حد السواء.
إن قيادة السادات الثاقبة، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن وتصميم الرئيس الأميركي جيمي كارتر على اغتنام الفرصة والتوسط بينهما، مهدت الطريق لمعاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر الموقعة في 26 مارس 1979. وقد صمدت المعاهدة على مدى السنوات الـ46 الماضية لأنها منذ بدايتها خدمت المصالح الجيوستراتيجية طويلة وقصيرة الأجل وكذلك المنافع الإقتصادية والأمنية المتبادلة لكلا البلدين.
وعلى الرغم من تبدل الحكومات المصرية والإسرائيلية عدة مرات على مدار السنوات الست والأربعين الماضية، إلا أن كلا الجانبين لا يزال ملتزمًا تمامًا ببنود المعاهدة، مُدركًا أهميتها الجيوستراتيجية الحاسمة لبلديهما. وهكذا صمدت المعاهدة أمام اختبار الزمن رغم عدم الاستقرار الإقليمي واستمرار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني العنيف.
تجاوزت المعاهدة آثارها وفوائدها الهائلة لإسرائيل ومصر. لقد غيّرت جذريًا الأبعاد النفسية والسياسية للصراع العربي – الإسرائيلي حيث بدأت تجد صدىً بين الدول العربية بعد ما يقرب من عقد من توبيخ مصر ومعاقبتها لكسرها كتلة العداء العربية ضد إسرائيل.
◙ بغض النظر عن النتيجة النهائية لهذا الصراع، ستتأثر مصر بشكل مباشر، وبالتالي فإن لها كل الحق في لعب دور مباشر في تشكيل الحلّ النهائي
أصبح من الواضح مع توقيع المعاهدة أن السلام الإسرائيلي – المصري سيمنع أي احتمال لحرب عربية – إسرائيلية شاملة. لقد كانت مصر ولا تزال أقوى دولة عربية عسكريًا، ومن دونها لن تتجرأ الدول العربية على خوض حرب ضد إسرائيل ستنتهي حتمًا بهزيمة ساحقة.
ولولا معاهدة السلام الإسرائيلية - المصرية لكان من غير المتصوّر إبرام أيٍّ من الاتفاقيات اللاحقة. في عام 1993 وضعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إطارًا للسلام والاعتراف المتبادل.
وفي عام 1994 وقّعت إسرائيل والأردن معاهدة سلام. وفي عام 2002 طرحت المملكة العربية السعودية مبادرة السلام العربية التي اعتمدها مجلس جامعة الدول العربية والتي اعترفت بحكم الواقع بحق إسرائيل في الوجود، وإن كان مشروطًا بإقامة دولة فلسطينية.
وفي أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021 تمّ توقيع اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان كلّ على حدة، أي أن معاهدة السلام الإسرائيلية – المصرية غيّرت مسار الصراع العربي – الإسرائيلي من حيث أنها عدّلت نفسيًا موقف الدول العربية تجاه وجود إسرائيل الذي لا رجعة فيه وفتحت الباب أمام حلّ سياسي، وإن كان بطيئًا نظرًا لاستمرار الصراع مع الفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية قد اكتسبت مكانة بارزة في الشؤون العربية أكثر من مصر على مدى العقد الماضي، إلّا أن مصر لا تزال محوريّة في البحث عن السلام الإسرائيلي – الفلسطيني بغض النظر عن معالمه النهائية، وخاصة الآن في أعقاب الحرب بين إسرائيل وحماس. فمن دون مشاركة مصر المباشرة وموافقتها على مستقبل غزة في سياق السلام الإسرائيلي – الفلسطيني، لا يمكن التوصل إلى أي حل.
لطالما شاركت مصر من الناحية التقليدية بشكل مباشر وغير مباشر في غزة. فقد كانت مسيطرة على قطاع غزة حتى احتلت إسرائيل القطاع خلال حرب الأيام الستة عام 1967 وشاركت مرارًا وتكرارًا في التوسّط في النزاعات المتكررة بين إسرائيل وحماس.
ومع ذلك، لم تتورّط مصر في أي وقت من الأوقات بشكل مباشر في الصراع بين إسرائيل وحماس أكثر مما كانت عليه منذ هجوم حماس في أكتوبر 2023 وحرب الانتقام الإسرائيلية. وبغض النظر عن النتيجة النهائية لهذا الصراع، ستتأثر مصر بشكل مباشر، وبالتالي فإن لها كل الحق في لعب دور مباشر في تشكيل الحلّ النهائي.
والسؤال المطروح اليوم هو ما إذا كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي سيُظهر نفس شجاعة السادات ليأخذ زمام المبادرة ويستغل الذكرى السادسة والأربعين كنقطة تحول، بدءًا بالإصرار على وضع إطار عمل لمستقبل غزة في سياق إنهاء الحرب بين إسرائيل وحماس، وفي نهاية المطاف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
أقرت القمّة العربية في القاهرة التي عُقدت في 4 مارس الجاري والتي ضمّت مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة خطة مصر الشاملة لإعادة إعمار غزة والتي تهدف إلى إعادة بناء القطاع على مدى خمس سنوات بكلفة 53 مليار دولار دون تهجير سكانه.
◙ معاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر لا تزال حجر الأساس لسلام عربي - إسرائيلي شامل، ولا يزال الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك
تستثني الخطة حماس من الحكم المستقبلي وتقترح بدلاً من ذلك لجنة فلسطينية تكنوقراطية تحت إشراف السلطة الفلسطينية. وتؤكد الخطة على الحاجة إلى الأمن وتدريب القوات الفلسطينية والدعم الدولي، بما في ذلك قوات حفظ سلام محتملة تابعة للأمم المتحدة. كما رفضت الخطة رفضًا قاطعًا فكرة دونالد ترامب الغريبة بتهجير الفلسطينيين وتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
ونظراً لتأثّر إسرائيل بأي خطط تتعلق بمستقبل غزة، ينبغي للرئيس السيسي البدء بإجراء مناقشات ثنائية مع إسرائيل لوضع خطط خروج لانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة على عدة مراحل. مصر في وضع يسمح لها بمنع إسرائيل من التفكير في طرد الفلسطينيين من غزة، مهددةً بأن ذلك سيُعرّض معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية للخطر.
وعقب القمة العربية قال الرئيس السيسي “لقد حان الوقت لتبني مسار سياسي جاد وفعّال يُفضي إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. لديّ ثقة في قدرة الرئيس ترامب على تحقيق ذلك.”
ومع أن إسرائيل ومصر ترغبان في رؤية حماس يُقضى على وجودها، إلا أنهما تدركان أيضاً أن ذلك سيكون بعيداً عن متناولهما، إذ ستبقى حماس لاعباً مؤثراً لا يمكن الاستغناء عنه. ولم تستبعد القمة دوراً لحماس في تنفيذ المبادرة المصرية.
وفي الواقع، بالنظر إلى مدى الهزيمة التي مُنيت بها حماس بعد 17 شهرًا من الحرب التي دمّرت جزءًا كبيرًا من قواتها المسلحة وحولت ثلثي غزة إلى خراب، بدأت حماس في الأسابيع الأخيرة بإرسال إشارات متضاربة حول مستقبلها في غزة. وقد أبدت استعدادها لمناقشة نزع السلاح كهدف نهائي لعملية السلام. وصرح حسام بدران، المسؤول في حماس، بأن الحركة مستعدة للتخلي عن الحكم، قائلاً “شرطنا الوحيد هو أن يكون هذا شأنًا فلسطينيًا داخليًا… ما دام هناك إجماع وطني، فلن تشارك حماس في الحكم.”
ولا تزال معاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر حجر الأساس لسلام عربي – إسرائيلي شامل. ولا يزال الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو العقبة الرئيسية أمام تحقيق ذلك. ولا أحد في وضع أفضل من الرئيس السيسي الذي يمكنه استخدام دور مصر الذي لا غنى عنه لدفع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني نحو الحل، بدءًا من وضع نهاية للحرب في غزة.
ليس هناك وقت أفضل من الآن للتحرك بقوّة نحو هذا الهدف بينما تحتفل مصر وإسرائيل بالذكرى السادسة والأربعين لاتفاقية السلام بينهما. فهل يستطيع السيسي أن يرتقي إلى مستوى رؤية السادات وشجاعته؟