المعاملة الوحشية تجاه الفلسطينيين تنتهك القيم الأخلاقية اليهودية وتهدد بقاء إسرائيل

بعد 77 عامًا من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، تخللتها أعمال عنف وحروب شديدة، حطمت الحكومات المتعاقبة بقيادة بنيامين نتنياهو القيم اليهودية حتى النخاع -تلك القيم التي دعمت وحافظت على حياة اليهود لقرون ووفرت الأساس الأخلاقي الذي بنيت عليه إسرائيل.
خلال آلاف السنين من التشتت، لم يكن لدى اليهود جيش ولا أسلحة ولا تكنولوجيا متقدمة لمحاربة الاضطهاد والميز العنصري والطرد والموت، لكنهم نجوا.
لقد صمدوا لأنهم أيدوا هذه القيم الأخلاقية في جميع الأوقات: في أوقات الفرح، وفي أوقات المعاناة، وفي أوقات الخسارة، وفي أوقات الكسب، وفي أوقات القلق عندما لم يعرفوا ما سيجلبه الغد.
لقد أشار المؤرخ بول جونسون في كتابه “تاريخ اليهود” إلى ما يلي: “إننا مدينون لليهود بفكرة المساواة أمام القانون، الإلهي والإنساني، وقدسية الحياة وكرامة الإنسان البشري، والضمير الفردي وبالتالي الفداء الشخصي، والضمير الجماعي وبالتالي المسؤولية الاجتماعية، والسلام كمثال مجرد والمحبة كأساس للعدالة، والعديد من العناصر الأخرى التي تشكل الأثاث الأخلاقي الأساسي للعقل البشري."
للأسف، لم تحظ هذه القيم الأخلاقية بقبول واسع النطاق من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأتباعه المتحمسين. فمنذ اليوم الأول الذي تولى فيه السلطة في عام 1996، تعهد نتنياهو بتقويض اتفاقيات أوسلو، وأقسم على عدم السماح بإنشاء دولة فلسطينية خلال فترة ولايته. ومنذ عودته إلى السلطة في عام 2008، وصلت العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها، وأصبحت احتمالات السلام اليوم أقل وضوحاً من أي وقت مضى.
لقد أصبح نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ومعاملتهم بوحشية تحت الاحتلال في الضفة الغربية وتشديد الحصار حول غزة والاعتراض بشكل قاطع على تقديم أي تنازلات ذات مغزى للوصول إلى اتفاق سلام، مهمته مدى الحياة، ما جعل الصراع مستعصياً على الحل بشكل متزايد.
◙ الانتقام والتعذيب وإطلاق النار بهدف القتل ومعاملة جميع الفلسطينيين في غزة كأهداف مشروعة وكأنهم جميعاً مقاتلون يوضّح الفساد الأخلاقي الذي ترسّخ في إسرائيل
لقد سهّل نتنياهو نقل مليارات الدولارات من قطر إلى حركة حماس، الأمر الذي سمح لحماس ببناء ميليشيا قوية لا تزال صامدة في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الهائلة. لقد أقنع نتنياهو نفسه بأن حماس تحت السيطرة، ولكن بعد ذلك جاء الهجوم الوحشي الذي شنته الحركة خلال فترة حكمه في الآونة الأخيرة.
ورغم أن همجية حماس لا تُغتفر، وأن لإسرائيل كلّ الحق في الدفاع عن نفسها، فقد أطلق نتنياهو حربًا انتقامية ضد حماس لا مثيل لها في نطاقها وعدم تناسبها. لقد أدت الحرب إلى تدمير ثلثي غزة وقتل 47600 فلسطيني، نصفهم من النساء والأطفال وكبار السن، وإصابة أكثر من 100 ألف شخص.
إن التهجير القسري والمتكرر لنحو 1.9 مليون إنسان، والقيود المفروضة على إدخال الغذاء والدواء ومياه الشرب والوقود وتدمير المدارس والمستشفيات، كل هذا أدى إلى كارثة إنسانية لم تشهدها إسرائيل منذ نشأتها في عام 1948.
إن الانتقام والتعذيب، وإطلاق النار بهدف القتل دون طرح أي أسئلة، ومعاملة جميع الفلسطينيين في غزة - رجالاً ونساءً وكبار السن- كأهداف مشروعة وكأنهم جميعاً مقاتلون، كل هذا يوضّح الفساد الأخلاقي الذي ترسّخ في إسرائيل. لقد صرّح آسا كاشير، أحد أشهر الفلاسفة الإسرائيليين، مؤخراً بقوله “لقد سمعنا تأبيناً من عائلة جندي قُتل روت كيف أحرق القتيل المنازل وقام بأعمال انتقامية. فمن أين جاءت هذه الفكرة المضطربة للانتقام؟”
هذه الجرائم الأخلاقية لم تنتهك قوانين الحرب فحسب، بل انتهكت أيضاً جوهر القيم اليهودية. لم تُعِد إلى الحياة إسرائيليًا واحدًا ذبحته حماس، بل أشبعت هذه الجرائم فقط حكومة فاسدة بقيادة نتنياهو تعمل كعصابة إجرامية لا يشبع تعطشها إلى الدماء الفلسطينية ولن تتوقف عن فعل أي شيء لتحقيق غاياتها.
وعلاوة على ذلك، يستخدم نتنياهو غطاء حرب غزة، حيث يتركز انتباه العالم أجمع، لضمّ الضفة الغربية.
وخلال الأشهر السبعة عشر الماضية قُتل 886 فلسطينيًا في الضفة الغربية وأصيب 7368. وفي عام 2024 وحده تم هدم 841 منزلاً في الضفة الغربية و219 منزلاً في القدس الشرقية. بالإضافة إلى ذلك، حتى نهاية يونيو 2024، تم اعتقال 9440 فلسطينيًا “لأسباب أمنية”، بمن في ذلك 226 قاصرًا.
وكانت هناك 1860 حالة من عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين من 7 أكتوبر 2023 إلى 31 ديسمبر 2024 تحت أعين الشرطة والجيش. هاجم المستوطنون القرى الفلسطينية بانتظام وأضرموا النار في المنازل والسيارات، ما أجبر الآلاف على ترك منازلهم وقراهم التي عاشوا فيها لمئات السنين.
وفي يناير 2025 شنّت إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق في الضفة الغربية، ما أدى إلى تهجير 40 ألف فلسطيني، وهو ما يتماشى مع دعوة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى ضم الضفة الغربية.
ونظرًا لما تحمّله اليهود من معاناة لقرون في أراضٍ أجنبية، كان من الصعب ذات يوم أن نتخيل أن أي حكومة إسرائيلية ستكون قادرة على معاملة إنسان آخر بالطريقة التي عومل بها اليهود. لقد أصبحت حكومة نتنياهو تعمل بشكل مطّرد على تدمير القيم التي وفرت الأساس الأخلاقي لإسرائيل، والتي بنيت على رماد 6 ملايين يهودي لقوا حتفهم في الهولوكوست؛ وقد أصاب هذا الانهيار الأخلاقي المأساوي لإسرائيل الجمهور الإسرائيلي بالعدوى.
لم يلق هذا القرار أي مقاومة تذكر من جانب الإسرائيليين الذين ولد 80 في المئة منهم بعد عام 1967. وبالنسبة إليهم أصبح الاحتلال أسلوب حياة؛ فقمع واحتجاز الفلسطينيين أصبحا أمراً طبيعيّا ومصادرة أراضيهم صارت أمرا مفروغا منه وأصبح هدم منازلهم أمرا ثابتا والغارات الليلية تشكل وسيلة أخرى جيدة لبث القلق والخوف الدائمين في قلوبهم.
إن الإسرائيليين الذين فقد الكثير منهم الإحساس بمعاناة الفلسطينيين اليومية، لا بد أن يستيقظوا للحظة وجيزة ويشاهدوا ما يجري باسمهم، ويستوعبوا المآسي اليومية التي تلحق بالعديد من المدنيين الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى كونهم فلسطينيين. أليس هذا ما يذكرنا باضطهاد اليهود، الذين لم يكن ذنبهم سوى كونهم يهوداً؟
◙ رغم أن همجية حماس لا تُغتفر، وأن لإسرائيل كلّ الحق في الدفاع عن نفسها، فقد أطلق نتنياهو حربًا انتقامية ضد حماس لا مثيل لها في نطاقها وعدم تناسبها
هذه الخيانة الكاملة للقيم اليهودية لا بد أن تجعلهم يرتعدون خوفاً كما فعلت بكل إنسان محترم. نتنياهو لا يريد السلام. إن الحفاظ على الصراع الدائم مع الفلسطينيين من شأنه أن يسمح له بالاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية من خلال الإكراه والترهيب والعنف أكثر مما يمكن أن يكتسبه من خلال عملية تفاوض سلمية.
إنه يصوّر الفلسطينيين باستمرار على أنهم تهديد وجودي بينما يستخدم المداهمات الليلية وهدم المنازل وغير ذلك لاستفزازهم بهدف ارتكاب أعمال العنف لتبرير الاحتلال على أسس الأمن القومي، بينما يلتهم أراضيهم قطعة قطعة.
يعارض نتنياهو دولة فلسطينية لكنه لا يقدم بديلاً عن حلّ الدولتين. يجب أن يُظهِر للعالم خيارًا آخر حيث يمكن للجانبين العيش في سلام وأمن بخلاف ذلك. هل ضم ّالضفة الغربية هو الحل؟ لن يفعل ذلك شيئًا سوى محو الطابع اليهودي لإسرائيل وحرمانها من العيش في أمن وسلام وتحدي رؤية مؤسسيها وسبب وجودها. لقد ولد تسعون في المئة من جميع الفلسطينيين الأحياء تحت الاحتلال. لقد تُركوا قانطين ويائسين ولم يعد لديهم ما يخسرونه. سيعيش جيل رابع من الشباب الآن للانتقام من الكارثة التي حلّت بشعبهم. ولكن ما المصير الذي ينتظرهم؟ إنهم يفضلون الموت شهداء على العيش في عبودية بلا أمل. ولن يكون ذلك إلا عندما يندلع جحيم جديد على نطاق لم يسبق له مثيل.
يتوق نتنياهو إلى نفي الفلسطينيين من غزة، بفضل دونالد ترامب الذي لا يدرك الرّعب الذي سيتكشف إذا تصرّف بناء على فكرته الهوجاء. ومع ذلك، فإن حلم نتنياهو بإسرائيل الكبرى لن يكون سوى كابوس دائم.
لن تتمكن إسرائيل أبدا من الحفاظ على نفسها على رماد الفلسطينيين. ومن خلال التخلي عن القيم اليهودية، يدمّر نتنياهو الأساس الأخلاقي الذي تقف عليه البلاد. ويتعيّن على الإسرائيليين أن يتذكروا أن القيم التي حمت بقاء اليهود طوال آلاف السنين يجب أن تُستعاد لضمان بقاء البلاد، بل وروحها ذاتها.