فائض الأمطار يمنح تونس فرصة تعديل إستراتيجيتها الزراعية

قبل أكثر من عام جرى حديث كثير عن الجفاف في تونس واضطرت وزارة الزراعة (الفلاحة)، تحت وقع التقارير والأرقام التي تحذر من خطورة الوضع في المستقبل، إلى اتخاذ بعض الإجراءات من بينها الحد من استهلاك المياه ووضع نظام الحصص والتلويح بعقوبات ضد الإسراف في استعمال المياه بالزراعة والسياحة.
لكن الحديث عن هذه الإجراءات خبا بعد موسم الأمطار الذي تعيشه تونس منذ أشهر. ومن الواضح أن وزارة الزراعة، ومن ورائها الحكومة، قد تراجعتا عن الخطة على الأقل في الواقع الحالي. ربما وجدتا أن ليس من الملائم أن يتم توجيه النصائح عن ترشيد استهلاك المياه في موسم ماطر، أو ربما سيرا على سنة المجاملة وتجنب الصدام مع وعي الناس.
موسم الأمطار هذا فرصة ليظهر المسؤولون على التلفزيون أو يقوموا بحملة في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ليصارحوا الناس ويقولوا “الحمد لله على الغيث النافع” ويقدموا صورة عن عمق الأزمة وكيفية التعامل معها في الرخاء قبل الشدة.
لا ينبغي أن يخاف المسؤولون من الانتقادات على مواقع التواصل التي لم يعد يرضيها شيء. عليهم أن يتحملوا المسؤولية ويقولوا للناس إن الأمطار الحالية قد لا تتكرر في السنوات القادمة بالكميات نفسها بسبب الجفاف الذي يضرب المنطقة والتحولات المناخية الضاغطة ليس فقط على شمال أفريقيا وإنما على العالم برمته.
صحيح أن من حق الحكومة أن تنشر أرقاما متفائلة عن كميات الماء التي جمعتها السدود، وأن نسب الامتلاء تقارب الأربعين في المئة، وهو رقم لم يكن أحد يتوقعه. كما أن المائدة المائية ستتحسن كثيرا، وخاصة في الجنوب الذي يشهد لأول مرة أمطارا بهذه الكميات وعلى فترات متقاربة.
◙ أي حكومة ترفع شعار استقلال القرار الوطني تحتاج أن تفكر في الزراعة أولا لأنها بوابة هذا الاستقلال، عدا ذلك سيظل مجرد شعار فضفاض
التفاؤل مهم للحكومة نفسها لتمتص حالة القلق من نفاد صبر الناس في وضع اقتصادي ضاغط وزيادة في الأسعار غير مفهومة وعجز مقاربة الدولة عن وقفها بالرغم من الحملات التي تشن على المحتكرين وشبكاتهم.
لكن حين تكون النفوس راضية ومتفائلة يكون من الحكمة أن تصارح الحكومة الناس بأن التغيير في إدارة أزمة المياه يبدأ الآن، فالاستمرار بأسلوب الإسراف القديم سيعني أن كميات الأمطار التي جادت بها السماء خلال الأشهر الأخيرة ستبدد خلال الصيف وتعود الحالة إلى ما كانت عليه.
هذه فرصة لأن ينتهز التونسيون، وخاصة منهم الدولة والمزارعين، فرصة استعادة منحى اقتصادي تعرض للتآكل بسبب الهجرة الداخلية وقلة الاهتمام بالزراعة وضغط الاستيراد من الخارج.
تقدر الحكومة على تنفيذ إستراتيجيتها التي تقوم على نظام الحصص في وضع مريح. والناس سيقبلون بذلك إذا كان الخطاب الحكومي هادئا وعميقا وحقيقيا ومبسّطا ويعتمد على الأرقام ونتائج الدراسات التي تقوم بها وزارة الزراعة، وكذلك الدراسات الدولية التي تحذر من واقع الجفاف في شمال أفريقيا.
قال المدير العام للموارد المائية بالوزارة عيسى الحليمي في برنامج إذاعي قبل أيام إنّ الوضعية المائية الحالية للبلاد التونسية أفضل من السنة الماضية لكنّها تبقى صعبة. من أين تأتي مخاوف الحليمي وغيره من الخبراء؟ بالتأكيد الأمر مرتبط بدراسات دقيقة من بينها رصد ارتفاع كبير في درجة الحرارة خلال الأشهر الأخيرة من 2023، وهو ما يتوقع أن يتكرر في النصف الثاني من 2024.
كشف المعهد الوطني للرصد الجوي في نشرية المناخ الشهرية الصادرة في 17 يناير الماضي أن شهر نوفمبر 2023 كان الأشد حرارة من بين كل أشهر نوفمبر منذ عام 1950، أي منذ أكثر من سبعين عاما، وهذا مؤشر خطير على واجهتين، واجهة الجفاف الحاد وواجهة الأمطار الغزيرة التي قد تفاجئ الدولة وإمكانياتها في غياب بنية تحتية للتحكم في الوضع. وسبق أن وضع خبراء من اليونسكو تونس في فئة البلدان المعرضة لأن تكون لها مشاكل مياه خطيرة بدءا من عام 2025.
هل تمتلك وزارة الزراعة إستراتيجية لمقاربة الأزمات القادمة في ملف المياه خاصة أن لديها الكثير من الخبراء؟ هل تقف الإستراتيجية عند نظام الحصص في المياه والتلويح بعقوبات على الإسراف في الاستعمال في الزراعة والسياحة أو للاستعمال الفردي؟
ولا شك أن خبراء الوزارة يراقبون تطور التقنيات المستعملة في الزراعة ومنها نظام الري بالتنقيط أو ما يسميه التونسيون "الري قطرة قطرة"، وهو من الأساليب الجديدة التي تساعد في الحفاظ على موارد المياه عن طريق تقليل إهدارها وتسهيل وصول القطرات البطيئة إلى سطح التربة أو مباشرة إلى جذور المحاصيل من دون جرف التربة أو إهدار كميات من الماء دون موجب، كما يحصل في نظام السقي الحالي الذي تعتمده الزراعة في تونس، وهي تجربة قديمة سيفضي التخلي التدريجي عنها إلى مكاسب منها الحفاظ على مياه السدود وتوظيفها في سنوات قادمة حسب نظام محسوب.
◙ تحتاج الإستراتيجية إلى التعامل مع المياه كقضية مصيرية بأن تستثمر فيها مثل إقامة السدود على الأودية ومنع الهدر المجاني لها بتركها تنساب إلى البحر
وتحتاج الإستراتيجية إلى التعامل مع المياه كقضية مصيرية بأن تستثمر فيها مثل إقامة السدود على الأودية ومنع الهدر المجاني لها بتركها تنساب إلى البحر دون أي استغلال، في وقت تواجه فيه البلاد نقصا كبيرا في الموارد المائية. ولا يعرف لماذا تخلت الدولة بعد الثورة عن مهمة إقامة السدود وأوقفت خططا حكومية سابقة لتجميع مياه الأمطار وتخزينها للشرب والسقي.
كما أنها لا تهتم لما يجري الحديث عنه من مخاطر قرار الجزائر إقامة السدود على الأودية المشتركة في جهات الشمال والوسط والجنوب، وحديث آخر عن أن الشقيقة الغربية تبالغ في استعمال مياه المائدة المائية المشتركة في أقصى الجنوب، وهل تم حل هذا الإشكال في الاتفاق الذي جرى الحديث عنه بعد القمة الثلاثية (الجزائر وتونس وليبيا) الأخيرة في تونس؟
وأعلن عن إمضاء اتفاقيّة في الجزائر العاصمة، بين الوزراء المكلّفين بالموارد المائية في البلدان الثلاثة بعد 48 ساعة من القمة، حول إيجاد آلية تشاور بشأن المياه الجوفية المشتركة في الصحراء الشمالية. وحثت القمة على المزيد من التنسيق وتكوين فرق مشتركة لصياغة آليات لإقامة استثمارات مشتركة في علاقة بتحلية المياه.
وهناك مشكلة تفصيلية أخرى، وهي استسهال حفر الآبار من دون توجيه واضح من الدولة، ومن يجدْ القدرة يتولَّ حفر بئر خاصة به والبدء في استعمال الماء دون ضوابط وكأنه ملك خاص، وليس جزءا من مائدة مائية هي ملك لأجيال قادمة وجب ترشيد استعمالها كما تفعل بعض الدول مع إنتاج النفط أو الغاز.
وبالنتيجة، فإن مقاربة تراعي المستقبل ستمكن الحكومة من تعامل ناجح مع أزمة المياه وكيفية توظيفها لإعادة الرهان على الزراعة كقطاع حيوي وأساسي في الاقتصاد يمكن أن يضمن الأمن الغذائي على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه يعيد الناس إلى الأرض خاصة بعد فشل خيار الهجرة من الأرياف والقرى في مناطق الشمال الغربي والوسط والجنوب نحو المدن الكبرى. لم تحقق هذه الهجرة الرفاه للنازحين ولا للسكان الأصليين، فضلا عما خلفته من تشوهات اجتماعية وثقافية وارتفاع منسوب الجريمة.
أي حكومة ترفع شعار استقلال القرار الوطني تحتاج أن تفكر في الزراعة أولا لأنها بوابة هذا الاستقلال، عدا ذلك سيظل مجرد شعار فضفاض.