فؤاد أبوترابة وعملية تفعيل المشاهد البصرية

على امتداد عقود من ممارسة الفن التشكيلي، صار فؤاد أبوترابة فنانا ذا تجربة خاصة وفريدة، انتقل فيها من الواقعية إلى التجريد بحركات وأسلوب خاصين غلب عليهما طابع التجديد ليترك بصمته على الساحة الفنية.
أربعة عقود والفنان التشكيلي فؤاد أبوترابة يصارع اللون في صيغ بحثية، منها بحث في العلاقة بين الإبداع التشكيلي وخصوصيات نوعية منتجة جماليا إلى حد الذهول، بحث في القيمة المعرفية وفق ذائقة مزدهرة إيقاعياً، متجاوزة للمكان حتى حدود غليان الروح، فإذا كانت حركة تفاصيل أعماله تتعلق بإشكاليات الفرز المتوافر في مبادراته اللونية حيث النظرات تدمج أفقياً فيها وفي مساحاتها، حيث أجنحته الحالمة ترفرف فيها لإطلاق سراح تلقائياته ضمن عمليات تنظر إلى الواقع الافتراضي في بعده التاسع.
ومن وجهة ذاته وفي السياق نفسه، يملك أبوترابة إمكانات الاستمرارية في خلق تقاطع أسئلة تؤكد مشروعية استحضار حالات تحمل كل إشارات النسيج العاطفي، الأقرب لرؤى إحالاته بحركة وفعل لا ينقصهما إلا حضور عمل داخل عمل.
وبخاطر تداولي معتاد يستكمل أبوترابة مقارباته وبفهم جديد ومغاير بتلامس مفردات تتحرك في المخيلة لتشكل منبعاً ثرّياً لخيوط الضوء في روائح ألوانه، وقد يكون هذا التتويج الأهم عند أبوترابة حيث التفعيل في إطلاق مشاهد بصرية تتخللها مقاطع فاصلة وصامتة تسرعه في رصده لمشاهده التي تجعلك تتوقف رغماً عنك للحظات ثم تقترب متأملاً، لتبرز تلك التفاصيل الدالة على عمق التجربة ثم الغوص فيها لكشفها ضمن التوليفة المتاحة وضمن مستوياتها المختلفة في مواجهاتها التي بها يعزز الفنان التشكيلي بحثه عن مرتكزات تجربته في مبناها ودلالاتها، فتتعدى طموحاته تحرير الثقافة والوعي إلى محاورة الوجود والكينونة في مناخ تتكاثر فيه الهزائم بالترابط مع الأزمة الحادة في إحياء المقولات التي ترتبط بشكل أو بآخر بنسق من القيم الإنسانية.
وأحسب أن أبوترابة يتحاشى الاحتكاكات الوعرة والتي قد تؤثر في منتجه الجمالي، فهو يعلم أن محاولاته المثمرة في توفير السياق الصحيح لتطور حالة مدى منتجه في بعده الأفقي تكمن في تطور منهجه في دراسة الواقع ومؤثراته، ولكن دون أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار فإن أعماله تملك معايير مضمونة للنجاح مؤمنا بأن العفوية قادرة على نقل المتخيّل من موقع إلى آخر، فهي تملك نزاهة واضحة، تملك معايير تسويقية المبني ذاتا على معايير جمالية.
هو في الحقيقة يبحث عن نفسه لأخذ مكان حقيقي يليق به، وهنا لا نفاجأ في قراءتنا إذا وجدنا لديه حساسية شديدة من فكرة غياب القيمة الفنية للعمل المنتج في زحمة الإنتاج وتخريب الذائقة الفنية للسائد، فالجهد الذي يبذله الفنان أبوترابة لفرض أحكام معيارية عادلة ليس قليلا، فالعمل الفني وبتطور تقنياته بات من القنوات المهمة للتواصل بين الناس بغض النظر عن لغاتهم وانتماءاتهم.
هو يخترق الزمن بتعدد آفاق المتلقي وهذا كسب للعمل الفني على نحو أخص ويدعم الرغبة في الانطلاق إلى جهات مغايرة بوصفه فعالية جمالية تنشط الذهن نحو اكتشافات تخرجه من مقولات موروثة مع دفعه لتنشيط معايير اللا وصول الإشارية منها والبصرية ليتحول العمل مع أصابعه إلى نص مفتوح يستوجب على المتلقي العوم فيه بمتعة خاصة وبأريحية ذاتية/مكانية ضمن تعالقات رؤيوية في صيغها الراهنة، والتي تستوجب من أبوترابة البحث عن خصائص حكائية مع النظر في رؤياه المنشطرة بينه وبين عمله المنتج، وبين العمل المنتج والمتلقي.
وثمة سؤال يبرز هنا وهو كيف وفق الفنان التشكيلي فؤاد أبوترابة في خلق كل ذلك، فقط يكفي أن نقول بأنه في انتقالاته العفوية العذبة وعدم إغفاله لآليات التكريس وقابليته الكبيرة للحوار والبحث لا بد أن يبعد الإخفاقات من طريقه.
يذكر أن الفنان التشكيلي فؤاد أبوترابة من مواليد صلخد في السويداء (سوريا) عام 1954 تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم الحفر بجامعة دمشق عام 1980، وهو عضو في اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين وشارك في العديد من المعارض الفنية الفردية والجماعية داخل سوريا وخارجها، وأعماله مقتناة في سوريا وهولندا وفنلندا وألمانيا، إضافة إلى كونه محاضرا سابقا في كلية الفنون الجميلة الثانية بالسويداء.
كتب عنه الكثير من الفنانين التشكيليين، وهذه الكتابات تبقى بمثابة شهادات من أعلام التشكيل السوري والعربي الذين رأوا في منجز الفنان مادة بصرية تستحق التثمين والإشادة، ومن هؤلاء فاتح المدرّس، محمود حماد، أيمن الدقر وصلاح الدين محمد.