غسان نعنع فنان ينفر من المهارات ورغم ذلك يبهرنا

هل صادفتم يوما شخصا يفضل اقتناء اسطوانة موسيقية على شراء ما يقتات به، ويتحدّث عن الموسيقى حديث متصوّف، وبخبرة قائد أوركسترا.
إن حدث وصادفتم مثل هذا الشخص، لا بد أن يكون غسان نعنع. آخر المصوّرين الرومانسيين الذين نسيهم الزمن، ولكن لم تنساه دمشق، المدينة التي أمضى فيها أجمل سنين عمره. وهي، إن غاب عن ذاكرتها بضع سنوات، تعود اليوم لتكتشفه وتقدّمه إلى النخبة المثقفة.
كلمة نخبة لم ترد هنا عفويا، لأن فنانا مثل غسان لا يشبهه سوى طبق كافيار، ولا تتذوّقه سوى نخبة النخب.
مُفرح أن يتذكّر أهل السياسة مثقّفي بلدهم ومبدعيه، فيكرموهم. إنهم بهذا التكريم إنما يكرمون بلدهم وشعبهم. وسوريا تستحق التكريم، وشعبها أيضا يستحقه، وإن أتى متأخرا.
ما حدث في سوريا، لا يدين البلد ولا يدين مبدعيها، فهو دخيل عليهم. المحنة لم تبدأ في مارس عام 2011، بل بدأت قبل ذلك التاريخ بكثير، بدأت منذ أن كانت دمشق.
هل مرّ على بلاد الشام يوم لم تشهد فيه محاولة غدر؟ بالتأكيد لم يمرّ، وكذلك لم يمرّ على أهلها يوم توقّف فيه الإبداع. فشكرا مضاعفا لكل الذين تمسكوا بسوريا ولم يغادروها. شكرا خاصا للمبدعين، الذين حافظت سوريا ببقائهم فيها على وجهها الجميل.
كيف نقرأ أعمال غسان نعنع؟ من يبحث في رسومه عن قصة وحكاية، عليه أن يتوقّف فورا. حتى في الحالات التي يُعنون فيها الفنان أعماله، يمارس علينا نوعا من الخديعة. لذلك علينا أن نقبل أن أفضل عنوان للوحات الفنان هو “بلا عنوان”.
أن تمنح اللوحة عنوانا، فهذا يعني أن تقسو عليها.. أيّ موكب للشهيد يريدنا غسان أن نكتشف في اللوحة التي اختار لها هذا العنوان؟
اللوحة موكب لمشاعر حزن، وغضب، وقلق، عزف منفرد بألوان قاتمة، تقول للمشاهد اغرق في بحري، اخترع عوالمك، أنت سيد الموقف، بوقوفك أمامي، أنت شريك للفنان. أُغرب بعيدا إن أنت عاجز عن أن تكون شريكا له.
ليس أهلا للوقوف أمامي، من لم يمتلك من الثقافة ما يؤهله لتذوّق هذا العزف الجميل للمسات الفرشاة.
ليس محببا أن تجري مقارنة بين أعمال الفنان وفنانين سبقوه، ولكن كل ما في أعمال غسان يغري بهذه التجربة، ولن ينقذنا منها أن ندعو قائلين: ربنا نجنا من التجربة.. من منا يمتلك القدرة على إيقاف فيض الذكريات أمام أعماله؟
من عتمة الفنان الهولندي رامبرانت ووميض ألوانه، إلى نزق ضربات فرشاة الفنان الرومانسي ديلاكروا، مرورا بواقعية دومييه وكوربيه، انتهاء بالضوء الساطع للإنكليزي الرائع تورنر.. هو كل ذلك وأكثر.
بعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة في دمشق، عام 1978، تابع دراسة الفن في مرسم أناتولي كلالنكوف في روسيا، عام 1992. بالتأكيد لم يكن ذلك مجرد صدفة.
الفنان، رغم تحرّر أعماله، هو في الأصل خارج من معطف غوغول، عاشق للواقعية، التي حافظت على وجودها، ولو بشكل متقشف، في جميع أعماله. بدءا بأعمال التخرج في مدينة دمشق، اللوحات التي حضر فيها الفنان الفرنسي كوربيه بقوة، خاصة لوحة “لاقطات الحب”. لم يتوقّف غسان يوما عن العودة لرحم الواقعية الذي خرج منه.
كيف استطاع أن يجمع بين الواقعية والرومانسية والانطباعية في آن واحد، سيبقى ذلك سرا يستعصي علينا فهمه، ولكن ذلك لن يمنعنا أبدا من تذوّق أعماله، إن كنا ننتمي إلى نخبة النخب.
سأستعير من الموسيقار محمد عبدالوهاب وصفا أطلقه على المطرب وديع الصافي، عندما سئل عن رأيه في مطرب لبنان والجبل، فقال دون تردد إنه “مطرب المطربين”. غسان نعنع هو الآخر “فنان الفنانين”، لن يعيش عوالمه ويقدّر قيمة أعماله إلاّ فنان.
أمام لوحاته يتحوّل المُشاهد إلى عرّاف يقرأ الطالع، وينبئ بالمستقبل، يتابع التفاصيل كما يتابع قارئ الطالع خطوطا عشوائية، في قعر فنجان قهوة، يحاول فك رموزه وأسراره.
وكما قراءة الفنجان، لا يجيدها سوى القادرين على مغادرة جسدهم للدخول في غيبوبة، كذلك هو حال المشاهد المجتهد أمام أعمال الفنان. وهو ما عبّر عنه أحد النقاد في حديثه عن لوحات نعنع “إنها قطعة مرئية من اللامرئي الذي نرغب برؤيته”.
لا يكتمل الحديث عن غسان نعنع دون أن نعرّج على جانب هام من شخصيته، خبره كل من عرفه، التواضع. ليس فقط في شخصيته، بل في أعماله. فنان ينفر من المهارات، ورغم ذلك يبهرنا.