"غسالة النوادر" مسرحية الفرجة الآسرة والمعادلة المستحيلة

مسرحية "غسالة النوادر" طبخة فنية لقبت بأسطورة المسرح التونسي تتميز بحوارها الغريب والأداء التمثيلي الذي ساهم في تشعب أحداثها وقاتمة مشاهدها.
السبت 2020/11/07
المسرح البلدي شاهد على ثراء الحركة المسرحية في تونس

تعتبر مسرحية “غسالة النوادر” لجماعة “المسرح الجديد” في تونس، أحد أروع الأعمال التي خلدها تاريخ المسرح العربي الحديث، لما احتوته من تجديد على مستوى الخطاب والأداء والإخراج. وظلت هذه المسرحية منذ 40عاما درسا في الإتقان والإدهاش بفضل التصاقها بنبض الشارع دون شعبوية أو إسفاف، وذلك عبر طرح يقارب علاقة المثقف بالسلطة من جهة، وعامة الشعب البسيط والغاضب من جهة ثانية.

النقاد والدارسون وأهل الاختصاص يُجمعون على أن المسرح التونسي علامة فارقة في العالم العربي، أمّا المسرحيون التونسيون فيلتقون عند حقيقة لا يختلفون عليها، وهي أن مسرحية “غسالة النوادر” لفرقة “المسرح الجديد” هي بدورها العلامة الفارقة ونقطة الانطلاق لمجموعة تجارب مسرحية حديثة تحاول البدء من حيث انتهى المخرجان الفاضل الجزيري وفاضل الجعايبي، ومعهما محمد إدريس وجليلة بكار، وحبيب المسروقي في الكتابة والتمثيل والسينوغرافيا. الآن، وبعد ما يقارب الأربعة عقود من إنجاز هذه الرائعة الفنية التي سحرت ألباب مشاهديها، ومن كل الفئات العمرية والاجتماعية، لا يزال قسم كبير من التونسيين يحفظون ويرددون حواراتها الآسرة عن ظهر قلب بالكثير من المتعة والنوستالجيا.

أعمال لا تصدأ

التلفزيون الوطني التونسي، وفي لفتة نادرة وتحسب له، كان قد صور المسرحية وأخرجها للشاشة الصغيرة في نسخة جيدة الإتقان حملت توقيع المخرج صلاح الدين الصيد، ولا يزال يعرضها بين وقت وآخر، فلا تزال هذه التحفة المسرحية تثير الشجن والحنين في نفوس الأجيال التي شاهدتها، كما تحصد الإعجاب والدهشة حتى لدى شباب الجيل الحالي ممن يصعب إرضاؤهم.

“غسالة النوادر” هي حقا من تلك المعادن الفنية التي لا تصدأ عبر الزمن فما الذي، يا ترى، جعل لهذه المسرحية مثل تلك الحظوة التي اجتمع على تقديرها كل من شاهدها بل والاندهاش بها إلى درجة أن بعض النقاد قسموا تاريخ المسرح التونسي الحديث إلى ما قبل غسالة النوادر وما بعدها؟

فاضل الجعايبي اختار خشبة متقشفة ليصنع عالما غنيا بالأحداث والسرديات
فاضل الجعايبي اختار خشبة متقشفة ليصنع عالما غنيا بالأحداث والسرديات

كيف لمسرحية غريبة الحوار والأداء التمثيلي، متشعبة الأحداث وقاتمة المشاهد، أن تصبح محل إعجاب النخبة والعامة على حد سواء؟ لا شك أن خلف هذه “الطبخة” الفنية التي لقبت بأسطورة المسرح التونسي فريق من “الطهاة المهرة”، بداية من إعداد النص، مرورا بالأداء العبقري ووصولا إلى الإخراج والإضاءة الساحرة التي صممها حبيب مسروقي، الذي انتهى منتحرا في دراما مرعبة ختمت حياته القصيرة مثل شهاب أضاء ثم أفل.

تبدأ الحكاية من حكاية “سلالة ملعونة” من المسكونين بالإبداع في أواخر سبعينات القرن الماضي، أطلقوا على أنفسهم اسم “المسرح الجديد”.. والجديد هنا يشي بنزعة نزقة وثورية تحاول أن تكسر القوالب العتيقة الجاهزة وتبشر ببناء جديد في منطقي الخطاب والتلقي.

ولا يصح الحديث عن المسرح التونسي دون المرور على التحفة المعمارية التي كانت شاهدا على ثراء التجربة التونسية، “علبة الحلوى” (لا بونبونيار)، التي أضفت منذ تشييدها عام 1902 “حلاوة خاصة” على أشهر شارع في تونس، إن لم يكن في العالم العربي، شارع الحبيب بورقيبة.

في هذا البناء ألقى الزعيم الراحل، الذي يحمل الشارع اسمه اليوم، خطابا لن ينساه التاريخ أمام حشد من المسرحيين، خصصه كاملا للحديث عن دور المسرح في نهضة تونس، وكان الخطاب كما وصفه الكاتب التونسي عبدالحليم المسعودي، في كتاب حمل اسم “بورقيبة والمسرح”، مانيفستو مسرحيا، حث فيه بورقيبة على تنشيط الحركة المسرحية، معتبرا المسرح أساس بناء مجتمع جديد يرقى بالتونسيين.

وهذا ما أثبته التاريخ، الفضاء الخارجي أمام المسرح البلدي وسط العاصمة تونس، تحول إلى برلمان يسمع فيه التونسيون العالم أصواتهم ويناقشون قضاياهم، ويقيس السياسيون نبض الشارع وتوجهاته.

نحن إذن إزاء نية ثورية مبيتة لا تقبل بالسائد وتتربص للانقضاض على كل ما هو تقليدي، رجعي ومهترئ. وكان ذلك في “ربيع اليسار الثقافي التونسي” الذي انتكس سياسيا لكنه أثمر في المجال الثقافي والفني، وأنتج حصنا حمى هذه البلاد وقتها، من كل أشكال التطرف الديني.

ولكي نضع الأمور في سياقها فلقد أنتجت مسرحية النوادر بعيد الانتفاضة العمالية الشهيرة في يناير 1978 وأشعلت البلاد شمالا وجنوبا، لكن الشعب الذي انتفض لكرامته ودفاعا عن قوته لم يجد في النخب الثقافية من يسانده ويحسن قيادته وتوجيهه. تلك النخب التي ما تنفك تغويه بالشعارات الكبيرة والجمل المنتفخة فاستحالت ثورته أشبه بوابل من أمطار الخريف التي تدمّر الحرث والزرع أكثر مما تفيده.

هذه المطر تسمى في المخيال الشعبي التونسي “غسالة النوادر” أي غاسلة البيادر.. قبل أن تكون عنوان مسرحية شهيرة في تاريخ المسرح التونسي من إنتاج فرقة المسرح الجديد لسنة 1980 بطولة جليلة بكار ومحمد إدريس وفاضل الجزيري وجمعت هذا الثلاثي مع الحبيب المسروقي والتي تعتبر منعرجا هاما في الكتابة المسرحية في تونس.

 تدور أحداثها في يوم ممطر يعلن بداية الخريف ويطلق عليه التونسيون تسمية غسالة النوادر وهي أمطار موسمية غزيرة ورعدية تدوم يوما واحدا وغالبا ما تحدث أضرارا مادية وأحيانا بشرية إذ قد تتسبب في فيضان بعض الأودية.

رمزية الإسقاط

فاضل الجزيري مثّل شخصية العروسي وكان رمزا للشعب كقوة عصية على الترويض
فاضل الجزيري مثّل شخصية العروسي وكان رمزا للشعب كقوة عصية على الترويض

وللمزيد من المقاربة بين أمطار الخريف التي رمزت في المسرحية للانتفاضة الشعبية الهوجاء التي مثلها العروسي السائق الشخصي للاّ بية (الفنان فاضل الجزيري) من جهة، وبين النخبة المثقفة التي تمثلها الآنسة بيّة (الفنانة جليلة بكار) من جهة ثانية، فإن الأحداث تدور في مطبعة جريدة ينقسم عمالها بين محرض على الإضراب ضد مالكها وممانع لذلك بدافع الخوف على لقمة يومه، كما أن الجريدة ترضخ في النهاية إلى سلطة الدولة وتتخلى عن فئة المحرضين بل وتعاقبهم بالطرد التعسفي.

بوادر قصة حب مستحيلة بين بيّة البرجوازية الثورية المثقفة والعروسي السائق الشعبي الطيب البسيط، وحين يبادر العروسي بالإقدام تتخلى عنه بيّة وتخذله فتتركه يتجرع مرارة الهزيمة، ويدفع الثمن من لقمة عيشه وحليب أطفاله.

العروسي يلملم كبرياءه المهدور وينتقم عبر ازدرائها والتخلي عنها، مما يجعلها في قمة الانكسار والإحباط فتعود إلى قوقعتها وعزلتها أي لبرجها العاجي كبرجوازية عاجزة عن التأثير والتغيير، وفق رمزية الإسقاط الذي أراده النص حين مثّل شخصية العروسي بالشعب كقوة هادرة عصية على الترويض من جهة، وجعل شخصية بية ترتدي لبوس المثقف كبرجوازية صغيرة غير قادرة على الانسلاخ الطبقي والالتحام مع الشعب وفق النظرية الماركسية وقراءة المفكر أنطونيو غرامشي، على وجه الدقة والتحديد.

بخار الحمام وصورة الآنسة بية المتبرجة من خلاله يمثل جملة الإغواءات والإثارات أي الشعارات التي أرسلتها إلى هذا السائق الذي يسير ويتجه بإمرة معلمه الذي يمثل السلطة في أعلى سطوتها وتعنتها.

وسط هذه الحكاية التي تبدو موغلة في بيئتها التونسية يختبئ نص كان بمثابة النواة أو الذريعة لانطلاق جماعة المسرح الجديد في الانشغال عليه، وهو نص مسرحية السويدي أوغيست سترنبرغ (1849 ـ 1920) ويحمل عنوان “الآنسة جولي”.

  جوليا الأميرة الشابة ابنة الكونت، تتعلق بخادمها، سائس الخيل، تأمره في كل شيء حتى في أن يحبها، وتذلّه لأنها الأسمى، ولكنها عندما وصلت إلى مرحلة التردد ثم السقوط.. أصبح سيدها ونال منها ثم هرب بما لديه من حقد ودهاء، هرب منها بعد أن انتقم من العنصرية والتمييز الطبقي، وترك سيدته حطاما، لا تستطيع حتى أن تتوب.

الشعوب تخذل مثقفيها أيضا.. مقولة خطيرة وقد تثير غضب اليسار العربي، لكنها واقع تصدى له مفكرون كثيرون حتى من داخل رحم الماركسية مثل جورج لوكاتش، ومن بعده البنيويون الذين أعادوا النظر في الجدلية التاريخية.

منهج بريختي

جليلة بكار أدت دور للّابيه برجوازية صغيرة غير قادرة  على الانسلاخ الطبقي
جليلة بكار أدت دور للّابيه برجوازية صغيرة غير قادرة  على الانسلاخ الطبقي

“غسالة النوادر” عمل فني ينتمي إلى اليسار التونسي بامتياز، لكنه يخلو من أي شعار أو محاولة للي عنق الحدث في سبيل تمرير مقولة أيديولوجية بأسلوب تعليمي، الأمر الذي سقطت فيه الكثير من الأعمال الفنية العربية، خصوصا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

تأثيرات المنهج البريختي واضحة جدا في التغريب والإيهام وكسر الإيهام من خلال كسر الجدار الرابع وكذلك أسلوب ستانسلافسكي في إدارة الممثل البعيد عن فكرة التقمص الكلاسيكية. ويبدو كل ذلك من خلال الأداء العبقري الآسر للممثلين فاضل الجزيري وجليلة بكار ومحمد إدريس تحت إدارة المخرج المتميز فاضل الجعايبي.

خشبة متقشفة إلا من لسان خشبي وبعض الإكسسوارات صنعتا عالما غنيا بالأحداث والسرديات تحت إضاءة الحبيب المسروقي الفنان الملقب بملك السينوغرافيا والذي لا يكتفي بإنارة الفضاء المسرحي كما يفعل غيره ممن يفتقدون إلى العمق الفني بل يضيء ما تحت الجلد ويتسرب الضوء واللون لديه كالماء الذي يسيل بعذوبة أخاذة.

الحوارات في “غسالة النوادر” كانت من طينة آسرة وغير مألوفة إلى درجة أن التونسيين صغارا وكبارا مازالوا يحفظون مقاطع منها عن ظهر قلب ويتندرون بها وكأنهم اكتشفوا لهجتهم بعد هذه المسرحية الآسرة.

يعود الفضل في تلك الحواريات المدهشة بين شخصيتي بية والعروسي إلى قلم الفنان محمد إدريس الذي ركز على إيقاعية تستنطق الجماليات الصوتية قبل الدلالات والمعاني.

أعادت جماعة المسرح الجديد للهجة المحكية اعتبارها وتعاملت معها كركن أساسي في العمل المسرحي حتى لتبدو وكأنها واحدة من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في السياق الدرامي.

وبفضل هذه التجربة الرائدة في المسرح العربي تحررت أعمال عربية كثيرة من سطوة الفصحى وثقلها البلاغي الذي يجعل من النص مادة أدبية قابلة للقراءة وليس للمعالجة المسرحية.

تأثرت تجارب تونسية وعربية كثيرة بهذه التحفة الفنية وحاول الكثيرون مجاراتها وتقليدها إلا أنها ظلت بصمة عصية على الاستنساخ، حتى أن أصحابها أنفسهم أي جماعة المسرح الجديد، لا ينفكون يذكرون مقاطع منها في أعمل جديدة أخرى كنوع من التكريم أو حتى النوستالجيا التي تعيد التذكير بالزمن الجميل.

تفرقت جماعة المسرح الجديد بعد بضعة أعمال كـ”التحقيق” و”العرس” و”الأم”، وأسس كل منهم مسرحه الخاص أو ذهب للتعامل مع مسرح القطاع العام، إلا أن تلك النكهة ما زالت محفورة على خشبات المسارح وفي ذاكرة جيلين من الجمهور التونسي الذي تربت ذائقته على مثل هذه الأعمال التي أنقذته من استهلاك الرداءة في الكثير من العروض الرخيصة.

عرض متلفز

وسط هذه الحكاية يختبئ نص "الآنسة جولي" للمسرحي أوغيست سترنبرغ
وسط هذه الحكاية يختبئ نص "الآنسة جولي" للمسرحي أوغيست سترنبرغ

ثمة بوادر إيجابية بدأت تظهر في توجه التلفزيون الرسمي التونسي نحو تصوير وإعادة إخراج بعض الأعمال المسرحية، الأمر الذي استبشر به الكثير من النقاد وهو ما صنع من المسرحية أو العرض المسرحي عملا إبداعيا آخر قائم الذات، مختلفا عن العرض الحي أو العرض الآني في المسرح. وربما اكتشف المشاهدون وخصوصا الذين لم يعايشوا مسرحية “غسالة النوادر” عند ظهورها على الركح، مشاهد أقرب إلى السينما منها إلى المسرح، وأداء يمزج بين السينمائي والمسرحي، وإضاءة مماثلة بين المسرح والسينما. وقال أحد المهتمين بالشأن التلفزيوني “إنه قد يتداخل لدى المتفرج أو المشاهد ما إذا كان العمل مسرحا أو سينما، لما في العرض المتلفز من عناصر درامية مؤثرة وإيقاع ينسي المشاهد أنه أمام مسرحية بل أمام عمل إبداعي قد يصعب تصنيفه ولكن يسهل استيعابه واستهلاكه لأنه يختلف عما ألفه من العروض المسرحية المصورة للتلفزيون”.

ولسائل أن يسأل بعد مثل هذه الأعمال المتفردة: هل بقي الجمهور على حاله؟ وما الذي تغير في توجه الجمهور وصانع العمل على حد سواء؟ وفي هذا الصدد تقول الفنانة جليلة بكار شريكة المخرج فاضل الجعايبي في العمل والحياة “عبر اجتماعات ومناقشات طويلة بيني وبين فاضل الجعايبي، وبيننا والمجموعة ككل، قلنا إن مسرحيتنا القادمة يجب أن تكون لكمة قوية لنا نحن أولا، لكمة فنية لنا، ولكمة سياسية للجمهور. وتضيف الممثلة القديرة التي لعبت دور للّا بيّة في المسرحية الشهيرة “قلنا إن علينا أن نبحث عن خطاب سياسي مباشر. يجب أن نحكي عن مشاكل الناس مباشرة ومن العمق وفي العمق ولكن هنا أستدرك قائلة إن هذا لا يعني إطلاقا أي نزعة شعبوية تبسيطية”.

16