غزّة بين ثنائية المجازر المتلاحقة والهدن الهزيلة

وسائل الإعلام تحدثت مؤخرا عن مشروع قديم متجدد، ألا وهو مشروع تهجير المواطنين الفلسطينيين من أرض أجدادهم، وكما هو معروف، قد فشل هذا المشروع في الماضي، ويبدو أنّه سيفشل اليوم، لأسباب واضحة، أوّلها صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري والرفض القاطع لكل من مصر والأردن له ورفض تطبيقه بما يحمل من مغريات مادية التي تستغل الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلدين الشقيقين.
ولهذا تنطلق العمليات العسكرية الإسرائيلية من تدمير ومجازر ودفن أحياء واستهداف مستشفيات ومدارس، لتحقيق هذا المشروع المنشود ومواصلة القتل العشوائي كرمى له. ومما تبرر إسرائيل به هذه المقتلة المستمرة منذ أكثر من سبعين يوما، هو عدم وجود قواعد عسكرية واضحة للفصائل المقاتلة في غزّة، وبالتالي فإن كل قطاع غزة هو قاعدة عسكرية بالنسبة إلى إسرائيل وهو مستباح عسكريا كالمراكز الصحية والتعليمية والدينية و.. و.. الخ.
إذا من اليسير على القيادة العسكرية الإسرائيلية الادعاء أن الأسرى والرهائن هم في أحد المستشفيات أو أحد المباني التعليمية أو أن الهجمات انطلقت ضدّها من بناء صحي أو ثقافي، أو حتى من حارة من حارات المخيمات المتواضعة، وثبت ذلك أم لم يثبت، تكون قد ألحقت بهذه القطاعات الحيوية، الخراب والدمار وسفكت دماء الأبرياء، إمعانا منها في إذلالهم وبالتالي ستكون واثقة فيما بعد، بأنّهم سيتدافعون فيما بينهم عند فتح باب هذا السجن الكبير، وإن لم يحدث ما تصبو إليه من مشروع الترانسفير تكون حكما قد حطمت ركنا من أركان البنية التحتية الفلسطينية وبالتالي حققت ضربات استباقية تحت الحزام للدولة الفلسطينية المنشودة. فحتى وإن قامت هذه الدولة مستقبلا، وهو ما ترفضه حكومة الليكود بشدة، فهي ستكون دولة فلسطينية مصابة بشلل نصفي، تحتاج المليارات والسنوات لتقف على قدميها.
◙ الشعب الفلسطيني يعيش ثنائية المجازر المتلاحقة والهدن الهزيلة التي لا تكفي أساسا لالتقاط الأنفاس ودفن جثث الشهداء أو إخراجهم من غابات الركام الحجري، هذه الهدنة التي يتصدر اليوم الحديث عنها عناوين الأخبار
فلو كانت الحرب التي تشن اليوم ضد قطاع غزّة النّازف، بين جيشين عسكريين نظاميين ولهما أهداف عسكرية واضحة، لسحب البساط من تحت إسرائيل، ولكان استهدافها لأيّ قطاع صحي أو تعليمي غير مبرر من ناحية عسكرية، كما أحدث استهدافها غير المبرر لمدرسة بحر البقر (8 أبريل 1970) في مصر الكنانة.
من المعروف أنّ هناك كلفة باهظة لحرب العصابات التي كانت على مدار التّاريخ تشتعل بين المقاومة والاحتلال، وأنّ الجزائر قدمت مليونا ونصف مليون شهيد على مذبح الحرية، لكن هل هناك تجربة تاريخية ثورية تتطابق مع ما يجري في غزّة السّاعة، مع الأخذ بالحسبان الكثافة السكانية العالية التي تعتبر الأعلى على مستوى العالم أجمع وضيق الحيّز الجغرافي.
لا تبدو إسرائيل مهتمة بهذا العائق البشري المكتظ إن جاز التعبير، فهي تواصل القتل والتدمير غير آبهة ببشر أو حجر أو شجر أو رأي عام عالمي. تتصرف إسرائيل بطريقة دموية متوحشة، آخذة مما حدث في السابع من أكتوبر بوجود حكومة يمينية بالغة التطرف وتعتبر الأشد عداء ضد الفلسطينيين، خير ذريعة لتحقيق أهدافها الاحتلالية والإحلالية، واضعة نصب عينيها تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن.
وإلى كتابة هذه السطور، يعيش الشعب الفلسطيني ثنائية المجازر المتلاحقة والهدن الهزيلة التي لا تكفي أساسا لالتقاط الأنفاس ودفن جثث الشهداء أو إخراجهم من غابات الركام الحجري، هذه الهدنة التي يتصدر اليوم الحديث عنها عناوين الأخبار.
ومما يعزز هذا الهاجس القلِق هو عدم وجود فترة زمنية واضحة لإنهاء هذا العدوان، والدعم العسكري الأميركي الذي منح إسرائيل شيكا زمنيا مفتوحا تكتب فيه إسرائيل عدد الأسابيع والأشهر كما يروق لها. فإن كانت حرب غزّة الأولى بعد انقلاب حماس في العام 2008 والتي دامت ثلاثة أسابيع ويوما واحدا، قد توقفت لسبب وحيد ألا وهو الانتخابات الأميركية وتسلم باراك أوباما لمفاتيح البيت الأبيض، فالانتخابات الأميركية الآن تبعد عنا زمنيا لأكثر من إحدى عشر شهرا، يكون الاحتلال خلالها عاث ذبحا وتحطيما كما يحلو له في فلسطين وأهلها، فإن لم يرحل الفلسطيني من أرضه يكون قد عاد إلى العصر الحجري.