عَطَّاف في دمشق: تكريس الفشل الدبلوماسي الجزائري

المُلَاحَظُ أن الخطاب السياسي والدبلوماسي للفاعل المؤسساتي في الجزائر قد عرف تحوُّلا مفاهيميا إزاء قضايا الشرق الأوسط بعد مفاجأة السقوط السريع للنظام البعثي في دمشق، وحديث الرئيس عبدالمجيد تبون عن استعداد بلاده لتطبيع العلاقات الجزائرية – الإسرائيلية واستبدال عبارة “الصهيونية” بـ”الإسرائيلية” في البلاغات التي تصدرها وزارة الخارجية الجزائرية، وزيارة وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى سوريا ولقاؤه مع الرئيس السوري أحمد الشرع، لا يمكن اعتبارهما مرونة سياسية للحكومة في الجزائر أو تغيرا إستراتيجيا في مواقفها السياسية أو نوعا من المناورة التكتيكية التي تهدف إلى تحقيق اختراقات دبلوماسية أو إعادة تكييف الموقف الجزائري مع المتغيرات الجيوسياسية الحالية التي يعرفها العالم، بعد تقدير موقف دقيق ورصين يُتخذ بناء على تحليل علمي وأكاديمي للمعطيات على الأرض، أكثر مما هو دليل على تراجع للدبلوماسية الجزائرية.
هذا الانهيار كرسته الدبلوماسية الهجومية التي تحولت إلى عقيدة دبلوماسية أدت إلى هزائم متعددة في السنوات الأخيرة وأثرت على تموقعها الجيوسياسي في الخارطة الدولية، وحوَّلت النظام الجزائري إلى تهديد وجودي لمختلف دول الجوار وأحد محفزات حالة اللااستقرار الإقليمي في منطقة تعج بالمخاطر والأزمات.
التدخل الجزائري في مختلف الملفات الإقليمية، كالنزاع الإقليمي المفتعل في الصحراء المغربية والملف الليبي والملف المالي والتشادي والسوري وغيرها، يؤكد على حقيقة واحدة أن هذا النظام الوظيفي ما هو إلا واجهة للاستعمار بشكله القديم. استمرار دعم هذا النظام لمخطط استعماري قديم يعود إلى القرن التاسع عشر يهدف إلى تقسيم المملكة المغربية.
◄ الجزائر كانت من الأنظمة العربية القليلة التي تحفظت على قرار تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية عام 2011 بعد الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد وعمليات التهجير القسري للشعب السوري
اليوم، الحكومة الجزائرية تسوّق داخليا زيارة أحمد عطاف الخاطفة إلى سوريا ولقاءه بالقيادة السورية الجديدة على أنهما انتصار سياسي وسبق دبلوماسي إقليمي، حيث تحاول الدبلوماسية الجزائرية البحث عن موطئ قدم في سوريا الجديدة من أجل الإيهام بأسطورة القوة الإقليمية الكبرى والدولة المهيمنة على جوارها بعلاقاتها متعددة الأبعاد والمواقف. لكن الحقيقة أن النظام الجزائري ظل وفيا لدعم إساءات نظام الأسد في حق الشعب السوري الشقيق من خلال الدعم المباشر والعلني والخفي للجيش السوري إلى ما بعد سقوط نظام الأسد. وتشير التقارير إلى الجسر الجوي الذي نقل قيادات سورية عسكرية وأمنية ومدنية رفيعة المستوى من قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية إلى قاعدة جوية في دولة في شمال أفريقيا، من المرجح أن تكون ليبيا أو الجزائر.
القيادة السورية الجديدة حسب تصريحات الرئيس السوري الجديد، انتقلت من منطق الثورة إلى منطق الدولة في تدبير الأزمة السورية من منطلق براغماتي يهدف إلى الحفاظ على المصالح العليا للشعب السوري. وعلى هذا الأساس، هناك ملفات كثيرة فوق الطاولة بين الجانبين السوري والجزائري، أهمها إعادة الأموال والأصول التي قد تكون نُقلت إلى أماكن آمنة في الجزائر وتسليم النظام الجزائري للقيادات العسكرية والمخابراتية المتورطة في جرائم الحرب بسوريا التي اتخذت من الجزائر مستقرا لها والتي تشير التقارير إلى اندماجها في الفيلق الأفريقي – الروسي، أسوة بقيادات عسكرية وأمنية تابعة لنظام القذافي في ليبيا.
الجزائر كانت من الأنظمة العربية القليلة التي تحفظت على قرار تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية عام 2011 بعد الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد وعمليات التهجير القسري للشعب السوري نحو المنافي. كما أكدت تقارير قيام الجزائر بتزويد طائرات النظام السوري بالوقود على مدى عشر سنوات بعد فرض العقوبات الدولية على النظام السوري، مما أتاح للأسد الاستمرار في حملاته الجوية المدمرة التي استهدفت مدنا مثل حمص وحلب ودرعا وإدلب ودير الزور.
بالعودة إلى تاريخ العلاقات بين النظام الجزائري ونظام الأسد في سوريا، نجد توافقا دائما ومستمرا بين النظامين بسبب التشابه الكبير في التوجهات الأيديولوجية والسياسية بينهما لدرجة التطابق. فالنظام السوري السابق كان نتيجة لسلسلة انقلابات نفذتها المؤسسة العسكرية في دمشق، آخرها الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد ضد الرئيس السوري صلاح جديد سنة 1971 والتي أغرقت البلاد في عقود طويلة من الظلام والفساد والاستبداد والطائفية والعنف تحت حكم عائلة الأسد. كذلك النظام الجزائري هو نتيجة لانقلاب الكولونيل هواري بومدين، قائد جيش الحدود الجزائري على يوسف بن خدة، الرئيس الثاني للحكومة الجزائرية المؤقتة في سبتمبر 1961. هذا الانقلاب تبعته ما سُمّي بالحركة التصحيحية في 18 يونيو 1965 بعد الهزيمة المدوية للجيش الجزائري في حرب الرمال على يد الجيش الملكي المغربي وغيرها من التطورات الداخلية والخارجية التي أججت الوضع السياسي والاجتماعي في الجزائر، واستمرت سلسلة الانقلابات في الجزائر بانقلاب الجيش على السلطة في 12 يناير 1991 وانقلاب سعيد شنقريحة على الحراك الشعبي الجزائري بعد الوفاة الغامضة للجنرال أحمد قايد صالح في 2021.
◄ التدخل الجزائري في مختلف الملفات الإقليمية، كالنزاع الإقليمي المفتعل في الصحراء المغربية والملف الليبي والملف المالي والتشادي والسوري.. يؤكد على أن هذا النظام الوظيفي ما هو إلا واجهة للاستعمار بشكله القديم
في نفس السياق السوري، في الأسبوع الأول من شهر يناير 2025، شارك وفد كردي من تنظيم “روج – آفا” أو الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التابعة لوحدات الحماية الكردية التي تشكل امتدادا عضويا وحليفا موضوعيا وفكريا للحزب العمالي الكردستاني بتركيا في نشاط تضامني نظمته ميليشيا بوليساريو الإرهابية في مراكز عملياتها المتقدمة بتندوف، مما يعتبر تهديدا صريحا للوحدة الترابية وسيادة واستقلال سوريا وتركيا من طرف بوليساريو، حيث قامت عناصر انفصالية تابعة لـ”روج – آفا” انطلاقا من العمق الجزائري برفع علم الانفصال الكردي وتقديم عروض حول العمليات الأمنية والعسكرية التي تنفذها وحدات حماية الشعب الكردية ضد الجيش التركي وباقي الفصائل السورية.
في الوقت الذي ينتظر فيه العالم حلولا نابعة من القوى الإقليمية للإشكالات الإقليمية من خلال تقوية دور الدول الوطنية، نجد أن الدبلوماسية الجزائرية لازالت تتناول الإشكالات الإقليمية بمقاربة كلاسيكية وتحدد طبيعة تفاعلها على أساس تقدير موقف متجاوز يرتكز على دعم الميليشيات الانفصالية بشكل لا يتناسب مع الجهود المفروض وجودها لصياغة رؤية إستراتيجية مناسبة تجاه التفاعلات والسلوكيات الإقليمية، وبشكل خاص عند إعادة توجيه وتشكيل الدبلوماسية الجزائرية في تحركاتها تجاه محيطها الدولي والقاري والإقليمي في علاقته مع المتغيرات الكبرى التي عرفها المشهد الجيوسياسي العالمي.
لجوء الدبلوماسية الجزائرية بقيادة أحمد عطاف إلى استقبال عناصر انفصالية كردية وتوفير الغطاء السياسي لتحركاتها ونشر دعاياتها هو تأكيد على فشل الدبلوماسية الجزائرية في الترافع الجدي والمسؤول عن مواقفها الخاطئة وحالة التخبط السياسي والدبلوماسي التي يعيشها الجهاز الإداري لوزارة الخارجية منذ عقود. عجز أحمد عطاف عن تقديم تصور واضح وفكرة دقيقة للنهوض بعمل الدبلوماسية الجزائرية نتيجة ارتهانها لرغبات جنرالات الجزائر واعتمادها على ميليشيا انفصالية بامتدادات إرهابية لتحقيق اختراقات سياسية عن طريق تحويل مخيمات تندوف إلى منطقة رخوة أمنيا تستقبل عناصر انفصالية من مختلف أنحاء العالم لزعزعة استقرار الدول الإقليمية، وبالتالي فالدبلوماسية الجزائرية أصبحت جزءا من العطب الإقليمي نتيجة العقيدة التصادمية لهذا النظام ومحاولته لعب أدوار إقليمية بتدخله في العديد من القضايا الإقليمية، حيث تحول إلى أحد محركات الصراع في المنطقة بدل أن يكون، باعتبار حالة الاستقرار النسبية التي يعيشها النظام الجزائري، أحد صمامات الأمان الإقليمية.