عيون اللوحات

للوحات عيون ملتمعة ترى وتدمع وتسمع وتتأثر وما على الفنان الفخور بها إلاّ احتضان “انفعالاتها” كما تحتضن الأم مولودها حديث الولادة.
الجمعة 2019/01/25
نظرة جديدة ومختلفة إلى اللوحات

تعتبر ليلة الافتتاح بالنسبة للفنان من أهم المناسبات على اعتبار أنها تكلل على الأقل نجاح وصوله إلى المرحلة النهائية لأحد الأشواط التي قطعها، والتي يود أن يكرر الوصول إليها مرات عديدة في السنوات التالية.

وخلال هذه الليلة الأولى للمعرض يرى الفنان لوحاته لأول مرة وكأنها ليست له، تعيش في وحدتها لأول مرة في جو من الصخب لم تعتد عليه، وبين حضور غريب بالنسبة لها، لوحات لا “تستغرب” حضور الجمهور الغريب فحسب، بل ترمق الفنان في الصالة حيث تُعذر بنظرات حائرة تعاتبه، لأنه أحضرها إلى مكان لم تره من قبل.

سيكتشف الفنان أنه ليس للوحاته فقط “نظرة” ووجهة نظر خاصة تجاه ما يحدث، بل إنه هو أيضا في جو مغاير تماما لما عاشه بحميمية هو ولوحاته في المحترف حين كان الزمن لا معنى له والعالم مُختصرا بمحترفه.

هكذا يمتلك الفنان في الصالة نظرة جديدة ومختلفة إلى لوحاته، وهي تلامس عن بعد عاطفي كل واحدة منها على حدة بعيدا عن عملية التواصل العضوي بينه وبينها.

ها هي أعماله المُفضلة منها والأقل أهمية “عاطفيا” بالنسبة له تقف أمامه بتجرد. للمرة الأولى، سيشعر الفنان بأن أعماله الفنية قد انفصلت عنه ولم تعد له فقط، بل يتشاركها مع حضور مهتم بها أو غير مبال إلاّ بالحضور الذي يتحلّق حولها.

بعد مرور اللحظت الأولى للمعرض، سيجد الفنان ذاته منغمسا في لقاء الأصدقاء والزملاء والمهتمين بالفن دون أن يفارقه قلق “انفصاله” عن لوحاته، وقد ينصت إلى آراء وملاحظات وقراءات حول أعماله المعروضة تضيف إليها أبعادا أو قراءة جديدة أو تحرك مخيلته نحو فكرة أو أسلوب تعبير بإمكانه أن يطوره من صلب نمط أعماله الحالية والمعروضة.

أي فنان بغض نظر عن الأسلوب الفني أو التقنيات التي يتبعها في تنفيذ أعماله يدرك تماما أن كل عمل يحتاج إلى وقت لكي ينضج فكريا وروحيا قبل أن يتحقّق.

ويدرك أيضا أن الإنجاز قد لا يحصل، لأن تحقيق كل عمل بغض النظر عن قياسه له زمنه الخاص وتحولاته الخاصة التي تكون في أحيان كثيرة مُفاجئة، حتى وإن كان من الفنانين الذين يخططون افتراضيا وبالتفاصيل ما يودون نقله إلى حيز الوجود الفني.

وضمن هذا السياق تصبح أمسية الافتتاح والأيام القليلة التي تليها زمنا إضافيا وثمينا بشكل مختلف وأكثر سرعة وتحفيزا بشكل شعوري أو لا شعري لبلورة أعمال جديدة.

حضور الأعمال في فضاء صالة العرض يهب الأعمال حياة جديدة، إذ تنعقد علاقة الفنان بها بقوانين تحكمها نظرة مستقبلية وتأسيس لمنطق شعوري لما سيلي أو سينبعث مما هو قادم.

وكما يوجد في معظم أعمال الفنانين ما يُمكن تسميته بـ”اللوحة النجمة” أو “اللوحة الأم” التي انبثقت منها بطريقة أو بأخرى أغلبية الأعمال، كذلك هي أمسية الافتتاح بالنسبة للمسيرة الفنية بشكل عام، حتى أن أكثر الفنانين انطوائية يدركون أهمية هذه الليلة ويحضرون على مضض أو بكل حماسةٍ مناسبةَ عرض أعمالهم، مناسبة لا يُمكن اختصارها بأنها عملية “وضع” لوحات في الصالة، لأنها مُمارسة فنية بحد ذاتها، وهي مهمة صعبة تتطلب معرفة وخبرة طويلة، وتدور في فلكها العديد من الانشغالات والاعتبارات التي تتعلق بالأعمال الفنية بشكل مباشر وغير مباشر.

للوحات عيون ملتمعة ترى وتدمع وتسمع وتتأثر وما على الفنان الفخور بها إلاّ احتضان “انفعالاتها” كما تحتضن الأم مولودها حديث الولادة.

17