عيد الاستقلال.. معاني متجددة للكفاح الوطني وإرادة عابرة للأجيال

عيد الاستقلال بالنسبة إلى الأمة المغربية هو عنوان الالتحام الدائم والأزلي بين العرش والشعب، فهو نهاية حتمية وطبيعية لدرب طويل من التضحيات والعطاء والبذل المتبادل في سبيل الوطن وحريته واستقلاله. عيد الاستقلال هو اللحظة الفارقة التي عاشها المغرب في منتصف الخمسينات حيث برزت خصوصية الشعب المغربي العريق ومدى تمسكه بتميزه وخصوصياته؛ ذلك أنه يأتي تحقيقًا لمطالب ثورة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني المعاصر، فهو نتيجة لقرار سياسي ومصيري جد مهم اتخذه المغفور له الملك محمد الخامس عندما انحاز بشكل واضح وصريح إلى مطالب الشعب المغربي وأعلن عن بدء ثورة الملك والشعب بروح المسؤولية والالتزام والتضحية مفضلًا أهوال النفي والإبعاد والعزل من العرش مقابل عدم الرضوخ لمناورات الاستعمار ورغباته، بقيادته المباشرة لنضال الحركة الوطنية وإرادة الشعب المغربي الجامحة في الاستقلال والحرية.
يوم 18 نوفمبر هو اليوم الذي حدد فيه الشعب المغربي بوضوح اتجاه بوصلة الكفاح ضد الظلم، عندما اختار المغاربة النضال تحت قيادة العرش العلوي والاصطفاف وراء بطل التحرير الملك محمد الخامس في مواجهة الاستعمار والاضطهاد وعملائه بعد أن قدم في سبيل ذلك قوافل من الشهداء والمنفيين والمختفين قسرًا والمعتقلين في السجون. 18 نوفمبر هو يوم من الأيام المجيدة للأمة المغربية صنعته العبقرية المغربية بنضال ومقاومة وكفاح مستميت حينما اختار الشعب المغربي يوم تولي السلطان سيدي محمد بن يوسف عرش الدولة العلوية كيوم لبعث الروح الوطنية الصادقة المتجذرة في روح كل مغربي ومغربية بعد محاولات المستعمر المستمرة لإطفاء جذوتها بسياساته العنصرية الغاشمة ومحاولاته بث بذور التفرقة بين أبناء الشعب الواحد بشتى الطرق والأساليب ونهبه ثروات الشعب المغربي وعمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي الممنهج خدمة لمصالحه الاستعمارية الضيقة.
◄ عيد الاستقلال هو مصدر فخر واعتزاز سياسي وتاريخي للشعب المغربي، هو يوم يعبر عن الرغبة الوطنية الدائمة والأزلية في الحفاظ على استقلاله وإقامة دولته المستقلة
سقوط المغرب بين مخالب الاستعمار لم يكن قرارًا عسكريًا صرفًا اتخذه جنرال بفكر توسعي أو قائد متنطع للسلطة والمجد بين ليلة وضحاها كما وقع لدول وشعوب أخرى طارئة ومؤقتة عبر التاريخ فتم احتلالها نتيجة لأخطاء دبلوماسية أو بسبب سياسات استعمارية توسعية. قرار احتلال المغرب كان نتيجة لمؤامرة إمبريالية كبرى متعددة الأطراف وطويلة المدى ومختلفة الأهداف والمقاصد، استخدمت في سبيل تحقيقها الكثير من الوسائل والطرق وشاركت في إعدادها والتخطيط لها عبر عقود طويلة الكثير من الدوائر والإمبراطوريات الاستعمارية وعقدت على هامشها مؤتمرات كبرى وتحالفات دولية واتفاقات سرية، حيث أن “المسألة المغربية” بأزماتها السياسية الدولية الحادة كانت من الأسباب غير المباشرة لقيام الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918، ونتيجة لهذا التنافس الاستعماري الحاد قُسِّم المغرب إلى ثلاث مناطق نفوذ ما بين الاستعمار الفرنسي والإسباني والمنطقة الدولية في طنجة.
“مشروع احتلال المغرب” سبقته دراسات وأبحاث وقراءات مستفيضة ومتأنية لفهم أنثروبولوجيا الشعب المغربي وطبيعة حضارته الضاربة في جذور التاريخ الإنساني حيث خلصت إلى نتيجة واحدة هي أنه شعب متماسك ومتمسك بعاداته وتقاليده وتاريخه وارتباطه وثيق ومتجذر مع العرش العلوي، حقيقة يؤكدها كُتَّاب وصحافيون خدموا الأجندات الإمبريالية مثل غابريل فير ولويس آرنو وشارل دوفوكو من فرنسا، ولويجي برزيني وإدموندو دي أميشس ودولامارتنيز من إيطاليا، ووالتر هاريس من بريطانيا، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من التقارير والملفات التي دبجها جواسيس ومخبرون بجبة المبشرين والمغامرين والرحالة والمصورين الفوتوغرافيين.
لذا كان القرار الدولي باحتلال أراضي الإمبراطورية المغربية بحدودها التاريخية مترامية الأطراف على مراحل حيث تم اقتطاع ملايين الكيلومترات المربعة من مساحتها لتكوين مستعمرات جديدة أو إلحاقها بكيانات استعمارية قائمة كما حدث لتيرس الغربية وبلاد شنقيط وأدرار والصحراء الشرقية المغربية وأقاليم أخرى. ثم الاحتكام للحماية الاستعمارية كنظام حكم جديد مع الاحتفاظ بمؤسسة المخزن الشريف كراعية لشؤون الشعب المغربي واقتصار التواجد الأوروبي على مدن أوروبية جديدة ومحميات زراعية في السهول الخصبة حيث واجهته مقاومة شعبية سطرت أروع معاني الذود عن الأرض والتضحية بالغالي والنفيس؛ إذ واجه المقاوم المغربي جيوش الاستعمار المنتصرة في معارك الحرب العالمية الأولى كفردان والسوم والألزاس ولورين ومرغ كرامته في الأرض بملاحم عسكرية خالدة جسدت قوة شكيمة الإنسان المغربي كمعركة أنوال المجيدة ومعركة الهري وجبل صاغرو ومقاومة بوغافر ومعارك الصحراء المغربية. لذا فاستقلال المملكة المغربية كان على مراحل حيث تم استكمال السيادة المغربية أيضًا على مراحل عن طريق خوض معارك سلمية وسياسية وعسكرية ودبلوماسية وقانونية على جميع المستويات.
◄ صيانة روح الكفاح الوطني لنيل الاستقلال تتواصل بشكل متجدد وبمواقف ثابتة وواضحة ومحترمة للمملكة المغربية في علاقاتها الخارجية
بعد عودة السلطان محمد الخامس والأسرة العلوية الشريفة من المنفى كان قرار بناء دولة حديثة بمؤسسات سيادية قوية وفصل واضح للسلطات حيث انخرط الشعب المغربي في مرحلة البناء والتنمية لاستكمال مسار الاستقلال الوطني عن طريق تأسيس درع للوطن يتمثل في القوات المسلحة الملكية المغربية ومؤسسات الأمن الوطني وسن القوانين الناظمة لحياة الشعب المغربي وإطلاق أوراش البناء والتشييد في كل ربوع الوطن وتحسين الاقتصاد الوطني بسن العملة الوطنية وتأسيس بنك المغرب كدليل على الاستقلال الاقتصادي والمالي عن الدوائر الاستعمارية.
المسار التاريخي للاستقلال استكمله الجيل الثاني بعد عشرين سنة بتنظيم مسيرة خضراء سلمية حضارية استطاعت تحرير الأرض وربط أواصر الأخوة بين أفراد الشعب الواحد وإعادة الصحراء المغربية إلى حضن الوطن تحت قيادة المغفور له الملك الحسن الثاني في تجديد لمعاني لحظة الاستقلال وثورة الملك والشعب.
لتعود المؤامرة الاستعمارية مرة أخرى بتغيير الأدوار وتغيير الفاعلين على شكل نزاع مفتعل باستخدام أدوات استعمارية انفصالية بئيسة تعمل على هدف واحد هو تحجيم طموحات الشعب المغربي في الاستقلال الوطني وإغراقه في صراعات مجانية واستنزاف قدراته لتعطيل مساره التنموي الرائد، حيث سطرت القوات المسلحة الملكية المغربية بكل فروعها ملاحم كبرى أبطالها أسود الوطن الجنود المغاربة الذين تخضبت دماؤهم الزكية برمال الوطن المقدسة، ومازالت مسيرة الشعب المغربي تسير في هذا الطريق النير مستلهمة روح كفاح الاستقلال الوطني بالاصطفاف وراء المؤسسة الملكية والمؤسسات السيادية تجسيدًا لمعاني الإيمان العميق بالروح الوطنية والوفاء للمقدسات المشتركة.
أثناء الحرب الصحية المرتبطة بجائحة كورونا، أظهر الشعب المغربي قمة الالتزام والتفهم لأوامر الدولة المغربية في سلوك حضاري وإنساني قل نظيره، وقدمت الدولة ورجالها صورًا متجددة من المسؤولية والتضحية والتفاني في خدمة الوطن والمواطنين، ليقدم المغاربة مرة أخرى درسًا آخر في تمغربيت وقيمها الخالدة المتجذرة عبر الأزمان.
◄ "مشروع احتلال المغرب" سبقته دراسات وأبحاث وقراءات مستفيضة ومتأنية لفهم أنثروبولوجيا الشعب المغربي وطبيعة حضارته الضاربة في جذور التاريخ الإنساني
واليوم تستمر معركة السيادة والاستقلال بروح الانفتاح والتكامل مع المحيط الإقليمي والقاري مع تجسيد الرؤية الملكية المتبصرة في بناء مغرب الجرأة والتمكين؛ إذ يلعب دوره التاريخي كاملًا كجسر حضاري بين الشعوب الأفريقية وباقي شعوب العالم وملاذ آمن للاستثمار المستدام في عالم اللايقين الاقتصادي، وهو ما أكدته رسالة الملك محمد السادس إلى المناظرة الأفريقية الأولى للحد من المخاطر الصحية في 16 نوفمبر 2022، حيث قال “ولا يخفى عليكم أنه منذ اعتلائنا عرش أسلافنا المنعمين، اعتمدنا مقاربة جيو-إستراتيجية جديدة في إطار شراكة جنوب-جنوب، تقوم على التضامن والتعاون وخدمة المصالح المشتركة، بما يعود بالنفع على المواطن الأفريقي.”
صيانة روح الكفاح الوطني لنيل الاستقلال تتواصل بشكل متجدد وبمواقف ثابتة وواضحة ومحترمة للمملكة المغربية في علاقاتها الخارجية وطريقة تدبير علاقاتها وارتباطاتها الدولية بعيدًا عن المزايدات غير المنطقية أو الكلام الإنشائي والشعارات الرنانة والاتجار بالمواقف السياسية خدمة لأجندات داخلية، حيث عبر جلالته بصريح العبارة في قمة الرياض الخليجية عبر رسالة إلى العالم من قلب منطقة تعرف استقطابًا حادًا بين المحاور العالمية قائلًا “فالمغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد.”
إن عيد الاستقلال هو مصدر فخر واعتزاز سياسي وتاريخي للشعب المغربي، هو يوم يعبر عن الرغبة الوطنية الدائمة والأزلية في الحفاظ على استقلاله وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة الحافظة لتقاليده العريقة وحضارته الضاربة في جذور التاريخ، ومناسبة يؤكد فيها هذا الشعب رغبته في التمسك بالثوابت والمقدسات الوطنية الجامعة وفي مقدمتها المؤسسة الملكية بمؤسساتها الإستراتيجية الضامن الوحيد والأوحد لاستقلال وسيادة ورفعة هذا الوطن.
في هذا اليوم ننحني جميعًا إكبارًا وإجلالًا وإكرامًا لأرواح الشهداء الذين أضاءوا بدمائهم الطاهرة مسار الحرية والكرامة والاستقلال وتخضبت بدمائهم الزكية رمال التراب المقدس لهذه الأرض الطاهرة المطهرة.