"عيار ناري" يتبنى خطاب وزارة الداخلية في توصيف ثورة 25 يناير

فيلم عن الحالمين بالحرية الذين تحولوا إلى متهمين، وتعمية على الحقيقة وتستر على جريمة قتل.
الخميس 2018/09/27
مواجهة بين الحقيقة والافتراء

تكاد ثورة 25 يناير 2011 تكون استثناء في الثورات، ليس في طبيعتها السلمية وحجم جاذبيتها للحشود المليونية في زمن قصير، من 28 يناير “جمعة الغضب” حتى خلع الرئيس المصري حسني مبارك في 11 فبراير، وإنما في استعجال الانقضاض عليها، والدفع بكتائب من جرحى الثورة وهم رموز النظام القديم من رجال الإعلام والشرطة والمال لتحميل الثورة خطايا ليست مسؤولة عنها، وتبرئة قتلة الثوار.

الجونة (مصر) - تعددت وسائل اغتيال ثورة 25 يناير 2011 بمصر، وتوّجت بفيلم “عيار ناري” الذي عرض مساء الثلاثاء في مهرجان الجونة السينمائي، وقبل عرض الفيلم قدم مخرجه كريم الشناوي الشكر للملياردير نجيب ساويرس، مالك المهرجان، على حماسته لدعم إنتاج الفيلم الذي شارك في إنتاجه محمد حفظي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي.

وإذا تجاوزنا مشهدا يبدأ به الفيلم وينتهي أيضا عن تعدد وجوه الحقيقة، في إعادة استنساخ مواعظ ساذجة لازمت أفلاما تقليدية في بدايات السينما المصرية، سنرى بطل الفيلم الطبيب الشرعي ياسين (الممثل أحمد الفيشاوي) شابا منطويا بلا أصدقاء ويخاصم أباه الوزير السابق، ويجد كل العزاء في الخمر التي تلازمه ويحتفظ بها حتى في ثلاجة المستشفى، وستكون سببا في الإيقاع به، وإيقافه عن العمل والتحقيق معه، بعد التشكيك في تقرير يخص شابا يفترض أنه قتل في مظاهرة، ولم يتردد أهله وأبناء الحي في اتهام فرد من قناصة الشرطة بقتله.

ولكن الطبيب يرضي ضميره بتقرير يثبت أن الوفاة مضى عليها ثلاثون ساعة، قبل مظاهرة يزعمون مشاركة الشاب فيها، وأن القاتل كان على مسافة قريبة جدا من القتيل الذي تلقى طلقة من مستوى الصدر وليس من أعلى. وتتمكن الصحافية مها (الممثلة روبي) من رشوة موظف يعطيها صورة من التقرير، فيثور أهل الشهيد معترضين على تقرير الطبيب، فتصدر مديرة مصلحة الطب الشرعي تقريرا آخر ينافق الشعور الجمعي ويجاري رواية أهل القتيل، وتتيح للصحافية معلومات تشوه سمعة الطبيب السكير، مزوّدا بصور من زجاجات الخمر في المستشفى.

احتيال وتواطؤ

يسعى الطبيب لإثبات براءته وصدق تقريره، ولا يصدقه أحد حتى الصحافية، فيخوض بمفرده رحلة لجمع تفاصيل عن القتيل، ويكتشف أن الثورة صارت احتيالا يغري أسرة قتيل بابتزاز الحكومة لنيل المقابل، ويتواطأون مع أهل الحي على أن ابنهم “الشهيد” قنصه شرطي.

وبعد مغامرات تليق بفريق من الشرطة الجنائية والنيابة العامة يثبت الطبيب أن الشاب قتل قبل المظاهرة، وأن خطيبته التي تعرف كلمة سر حسابه الفيسبوكي كتبت على لسانه “نازل يا أمي المظاهرة عشان مصر” بعد وفاته، قبل المظاهرة.

وفي مشهد يحتشد بحوار مسرحي، يقتحم الطبيب والصحافية بيت “الشهيد” فيرون خطيبته قد آلت إلى أخيه فورثها أيضا وشرع في الاستعداد للزواج منها، ويتبارون في أداء صاخب ينتهي باعتراف الأم بعقوق ابنها القتيل، وأنه حاول أن يحصل منها على تنازل عن البيت، وضربها بقسوة وتصادف اعتداؤه على الأم مع دخول أخيه، فتشاجرا وانطلقت رصاصة تثبت صحة تقرير الطبيب.

في ظل ثورة 25 يناير المضادة استرد رجال الشرطة بريقهم في مسلسلات التلفزيون وجبروتهم في الشارع
في ظل ثورة 25 يناير المضادة استرد رجال الشرطة بريقهم في مسلسلات التلفزيون وجبروتهم في الشارع

ما الذي يفهمه مشاهد تابع عملية شيطنة ثورة 25 يناير 2011؟ مسار الوقائع يجيب عن السؤال؛ فهذه الشيطنة استغرقت وقتا، بعد ذهاب نشوة الثورة وتمكن الشياطين من تدبير الحيل الكافية للالتفاف، وغسل الأدمغة، وتخويف الناس من عواقب مؤامرة حملت اسم الثورة.

في سكرة الثورة صُنعت مسلسلات تلفزيونية عن فساد رجال في جهاز الشرطة، وقدم مخرجون بعضهم ينتمي إلى عهد مبارك فيلم “18 يوم” الذي احتفى به مهرجان كان عام 2011، وفي ظل الثورة المضادة استرد رجال الشرطة بريقهم في مسلسلات التلفزيون وجبروتهم في الشارع، ويعجز المخرج تامر السعيد عن الحصول على تصريح بعرض فيلمه “آخر أيام المدينة”، وكان مقررا أن يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2016، واستبعده المهرجان تماما.

مسار الثورة ومصيرها يجسده حكمان قضائيان، كلاهما يوصف بأنه “عنوان الحقيقة”، الحكم الأول في 2 يونيو 2012 وقضى به القاضي أحمد رفعت على المتهم “محمد حسني السيد مبارك بالسجن المؤبد عمّا أسند إليه من الاتهام بالاشتراك في جرائم القتل.. وبمعاقبة حبيب العادلي (وزير الداخلية) بالسجن المؤبد عمّا أسند إليه من الاتهام بالاشتراك في جرائم القتل والشروع بالقتل في جرائم أخرى”؛ لامتناعهما “عمدا عن إيقاف قتل المتظاهرين حماية لمنصبيهما.. ذلك الإحجام والامتناع قد أوقع في يقين المحكمة أن المتهمين المذكورين قد اشتركا مع مجهولين بطريقة المساعدة في ارتكاب جرائم القتل العمد”.

وأما الحكم الثاني في 29 نوفمبر 2014 فقضى به القاضي محمود الرشيدي لمبارك والعادلي بالبراءة، عن الواقعة نفسها، بعد جلسات لم تخلُ من اتهام العادلي لبعض الداعين إلى التظاهر بالعمالة لدول أجنبية، ووصفه للشعب بالغفلة لانخراطه في مظاهرات “مموّلة”، ولم ينبهه القاضي إلى أن القضية جنائية لا سياسية.

شيطنة الثورة

لم ترتبط الشيطنة بالثورة وحدها، فهي أسبق وأكثر شراسة، ولا مانع من التذكير بواقعة كاشفة لآلة الدولة الإعلامية في التضليل، وكان الشاب خالد سعيد أبرز تمثيلاتها، حيث توفي في 6 يونيو 2010، حسب الرواية الرسمية، مختنقا بابتلاع لفافة من البانجو، ولم يسأل الكذبة أنفسهم “وما الداعي للتمثيل برأس الشاب وتشويه ذقنه وفكيه؟ فما هكذا يفعل البانجو بالناس؟”.

وتبارى الإعلام في توجيه خطايا أخلاقية ووطنية إلى خالد سعيد، فكتبت صحيفة الجمهورية أنه “شهيد البانجو”، ووزعت وزارة الداخلية نشرة اتهامات أعلنها المذيع تامر أمين بسيوني قائلا إن على خالد سعيد أربعة أحكام هي: التهرب من التجنيد وحمل سلاح أبيض والتحرش بأنثى ومحاولة سرقة بالإكراه.

وقام المذيع خيري رمضان بدور المحقّق والقاضي نافيا قيام أفراد الشرطة بقتله، ووجه التحية إلى رجل الشرطة “المحترم.. لأنه عمل شغله”، وزعم أن لخالد سعيد سجلا إجراميا، وأنه نال عقوبات بالسجن وهارب من التجنيد. وعقب خلع مبارك، مع صعود الأمل في التغيير، سيقول المذيع نفسه “خالد سعيد تميمة الثورة.. كان سببا في تغيير بلد بالكامل”.

وبعد مسلسل يدعو لليأس من عدالة ناجزة، نال قاتلا خالد سعيد حكما بالسجن عشر سنوات، في مارس 2014، وطعنا المتهمان على الحكم، فأيدته محكمة النقض في مارس 2015، ليصبح نهائيا.

لا إشارة لإسهام وزارة الداخلية في إنتاج فيلم “عيار ناري”، أو في مراجعة السيناريو، ولكن الفيلم يخلي ساحتها من المسؤولية عن قتل ضحايا حالمين بالحرية، ويلمح إلى احتمال أن تكون لكل منهم قصة ربما تتشابه مع هذا الفيلم، وأخشى أن نبتلي بأفلام عن “شهداء” زائفين، ويتفنّن صنّاع هذه الأفلام في التأكيد على أن أخا جشعا لا يتورع عن الاستثمار في دم أخيه، وأن الشعب مغرم بالتدليس، والتعمية على “الحقيقة”، والتستر على جريمة قتل، ما دام صدر الشرطة يتسع لتحمّل خطايا المواطنين.

16