عن ذلك العربي التائه

لا يمكنك السيطرة على العربي، هو حيلة قدرية ماكرة، ثقافته تجعل منه صعب المراس، عنيدا، ملتفا على أحواله تارة، متصادما معها تارة أخرى. ومنذ أن أطلق أحد أجداد العرب ذات يوم اسم “العروبة” على يوم الجمعة، ذلك اليوم الذي كانت تجتمع فيه الناس في مكة في عصور ما قبل الإسلام، وصورة العربي تتأرجح وتترنح، صورة صنّعتها الثقافة والإسهام الحضاري، أكثر مما كرّسها الدم، وهو الرابطة الأكثر تخلفا وإيهاما في تشكيل الأمم.
تيه طويل عاشته تلك الصورة، لم ينتبه أثناءه أبناء تلك الهوية إلى أن أحد أدق تعابير القرآن الكريم، كتابهم الذي يفخرون به وبعربيته، أكثرها نزقا وتأففا إنما وجّهت إليهم هم بالتحديد. ويتنزّه النص المقدّس عن العنصرية والتمييز، فالمقصودون بتلك الآية كانوا أولئك الذين يرفضون التحضّر ويكفرون بالتمدّن، تشبثا بالعيش ضمن قوقعة العزلة في معركة التحديث. وهي آفة كبرى واجهت وتواجه تلك الهوية الحضارية، والبعض من ورثتها مقتنعون اليوم أنها لم تعد نافعة وأنه يجب خلعها ورميها في القمامة كثياب قديمة، والخروج إلى العالم، عراة، باسم التطوّر. ويا لها من فكرة حمقاء. فأي الأمم في العالم اليوم تتفاعل مع الآخرين بلا هوية.
غير أن ما يزعج كارهي تلك الهوية والحاقدين عليها، وعلى رأسهم الإيرانيون اليوم، بعيدا عن خرافات التمويه الطائفية، أن كل هزّة عنيفة واجهتها، كانت تخرج منها أفضل من ذي قبل، بفعل نصيب من حظٍ تاريخي فريد يجعل من المتناقضات تشتغل لصالحها دوما.
وقد قرأنا للعديد من المفكرين الكبار والباحثين المتميزين عن صعوبات مسار ذلك العربي التائه عبر التاريخ. ومنذ أن بدأ بعض القدامى بتحوير الخطاب من شكله العربي إلى شكله الديني، أخذ الشيخ ورجل الدين والمستبد يحل محل الفيلسوف والعالم. فنتجت عن ذلك صورة أخذت تبهت وتبهت، حتى استثمرها كل طرف حسب مصالحه.
ليس اليوم جديدا علينا. فقد مرّت مثله أيام وأيام، انهارت فيها قيم تلك الفكرة حتى سُمّيتْ دهورها، بلا تردّد، عصر الانحطاط. ويا له من تعبير صادق جارح. كان ذلك بعد سقوط بغداد على يد التتار. واليوم نعيش عصرا شبيها، بعد سقوط بغداد الثاني، وانتشار خراب العمران في المراكز الحضارية العربية. انتشارٌ وصفَه بيت واحد اختصر كل شيء ”لمّا رأتْ أختَها بالأمسِ قد خربتْ/ كان الخرابُ لها أَعدى من الجَرَبِ“. لكن بعد مئات من السنين بعد قول أبي تمام هذا، وحين عادت وتكاملت شروط علمية توجب استيقاظ تلك الهوية، عاد الشاعر الراحل محمود درويش وكتب رائعته ”سَجِّلْ أنا عربي“.