عن المكتبات الشخصية

معظم المتعلمين في العراق، بمن فيهم عدد غير قليل من الحرفيين والمزارعين يمتلكون في بيوتهم، مهما كانت متواضعة، مكتبات شخصية، حتى وإن كانت صغيرة.
السبت 2019/04/06
المكتبات الأسرية تكون في الكثير من الأحيان ذات مكون يفصح عن توجه صاحبها

كنت أقلب صفحات كتاب “شذرات” لإلياس كانيتي بترجمة رشيد بوطيب، مع أنني قرأته من قبل، غير أن كتابا من هذا النمط، وهو أقرب إلى كتب الأمالي في تراثنا الأدبي، لا تنتهي علاقة القارئ به بعد الانتهاء من قراءته، بل تتم مراجعته بين الحين والحين والتوقف عند مقولات وردت في الكتاب من اختيارات المؤلف، من مصادر تجربته المعرفية بصفة عامة وقراءاته على وجه خاص.

ومما جاء فيه، ما نقله إلياس كانيتي عن كتاب “الاعتبار” لأسامة بن منقذ “أربعة آلاف كتاب، خسارتها ستظل ما حييت جرحا في قلبي” وأسامة بن منقذ أمير عربي ولد وعاش في بلاد الشام في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو فارس مقاتل، شارك في رد غزوات الأوروبيين التي تغطّت أطماعها التوسعية بغطاء ديني، وله مؤلفات مهمة منها كتاب “الاعتبار” وقد قرأته من قبل وما زالت نسخة منه في مكتبتي ببغداد، كتب فيه أسامة بن منقذ سيرته الذاتية، وهناك من يعده أول سيرة ذاتية في الثقافة العربية، وهو الكتاب الذي اقتبس منه كانيتي، في كتابه “شذرات” ما أشرنا إليه من قبل بشأن مكتبته الشخصية التي فقدها في زحمة الأحداث التي عاشها، واضطراره للتنقل من مكان إلى آخر، ومما لفت نظري في توجع أسامة بن منقذ على مكتبته، أن معظم الذين اضطرتهم الظروف إلى فقدان مكتباتهم أو إلى الابتعاد عنها، يعانون مثل هذا الوجع ويحنون إليها حنينهم إلى أخ كريم أو صديق عزيز، وأساس هذا التوجع وهذا الحنين، هو طبيعة علاقة صاحب المكتبة بالكتاب، فالمكتبة هي الكتب، ولكل كتاب فيها حضوره في حياة صاحب المكتبة، وما يقترن به من ذكريات، سواء على صعيد الأفكار والمعلومات أم على صعيد كيفية اقتناء الكتاب وأين ومتى.

لقد كان معروفا، أن معظم المتعلمين في العراق، بمن فيهم عدد غير قليل من الحرفيين والمزارعين يمتلكون في بيوتهم، مهما كانت متواضعة، مكتبات شخصية، حتى وإن كانت صغيرة، تحفظ في صندوق خشبي أو حديدي أو رف أو خزانة صغيرة، ومثل هذه المكتبات تكون في الكثير من الأحيان ذات مكون يفصح عن توجه صاحبها، في الأدب أو الدين أو التاريخ أو الفن أو غيرها.

وقد يرث بعض الأبناء مكتبات آبائهم، فتكبر معهم وتتوسع، وقد قرأت ما كتبه الدكتور إبراهيم العلاف، حيث تعدّ مكتبته من بين أهم المكتبات الشخصية في الموصل، من حيث عدد الكتب وأهميتها وتنوعها وما تقدمه من خدمات للباحثين، بأنه ورث بداياتها عن والده ثم عمل على تطويرها، وكثير من الأبناء يتبرعون بمكتبات آبائهم إلى المكتبات العامة والجامعية.

ومن المكتبات الأسرية، مما تعد من المكتبات الأكثر أهمية حتى بالقياس إلى المكتبات العامة، كما هي مكتبة -آل باش أعيان- في البصرة ومكتبة هبة الدين الشهرستاني أول وزير معارف في الحكم الوطني، وقد حولت إلى مكتبة عامة باسم مكتبة الجوادين، ومن ثم دفن هبة الدين فيها، وربما اضطر ظرف ما إلى أن يكون الإنسان بعيدا عن مكتبته، غير أنه يعمد إلى تأسيس مكتبة جديدة في مكان إقامته الجديد، وعلى سبيل المثال إن المهندس نصيف جاسم دبدب وهو من أشهر جامعي الكتب في العراق، ما إن غادر بغداد وأقام في عمان حتى سارع إلى نهجه في جمع الكتب، لكن هل يستطيع أن يوفر لها المكان الذي كان قد وفره لمكتبته الشخصية في بغداد، وهو يعيش في شقة سكنية.

وقرأت في رسائل الدكتور علي الوردي خلال أعوام دراسته في أميركا، أنه كان يتابع الإصدارات الجديدة، فيطلبها ويضيفها إلى مكتبته الشخصية، مع أنها كما حدثني الكاتب سلام الشماع لم تكن من المكتبات الكبيرة وتكاد تقتصر على ما يحتاجه الوردي في ما يكتب.

14