عن الماضي والحاضر

السبت 2017/07/01

من الطبيعي أن يكون لكل جماعة بشرية، ماضيها، الذي ترثه ولا تصنعه، تتأثر به ولا تؤثر في جوهره، فالذي مضى بأحداثه ومقولاته، طواه الزمن ولا يمكن أن يتكرر كما كان وقت حدوثه، وقد يكون الانتماء إليه بالعقل، فيحاوره من خلال رؤية نقدية معاصرة، تفيد من إيجابياته وتتجنب ما هو سلبي فيه.

وقد يكون الانتماء إلى ذلك الماضي بعاطفة منفلتة، وفي مثل هذا الانتماء تكون النتائج مما يعد من قبيل التخريب، وهذا التخريب لا يؤثر في الماضي لأنه لم يعد موجوداً، بل يؤثر في الحاضر، إذ يثير معارك كلامية حيناً ودموية حيناً، وقد تقترن هذه بتلك، فينصرف المتعاركون عن الحاضر، لأنهم مشغولون بالماضي، يتبنون خلافاته التي لم يشهدوها وما كانوا من المشاركين فيها ولم يستشرهم في أحداثها، أيٌ من أطرافها.

نعم، للماضي عوامل نهضة تُدرك بالعقل، قد تفيد منها الجماعات الإنسانية بتمثلها وليس باستنساخها، فالماضي بإيجابياته، من الممكن الإفادة من تمثله، ولكن لا يمكن استنساخه، فإذا حاول بعضهم ذلك، أدت بهم هذه المحاولة إلى تخريب الحاضر.

ولو رصدنا مواقف الجماعات التي شغلها الماضي، كما تتخيله أو كما صُوِّر لها، وليس كما هو، على صعيدي المقولات والممارسة، لوجدنا أن هذا الانشغال بالماضي يجعلهم يعيشون فيه، وليس كما ينبغي للمرء أن يعيش في الحاضر، ومن المؤكد أن من يعيش في الماضي لا علاقة له بالمستقبل، فالماضي هو حاضره ومستقبله في آن واحد.

من الطبيعي أن يكون للأحداث التاريخية الكبرى في حياة الأمم والشعوب، تأثيرها، ومن الطبيعي أيضاً، أن تفخر هذه الأمم والشعوب بما هو إيجابي في تاريخها، أحداثاً وحضارات ورموزاً، لكن أن يحول هذا التأثير دون إدراك المتغيرات وأن تتحول هذه الإيجابيات إلى مقدسات، لا تمس ولا تناقش ولا يقرب منها التغيير، فذلك يتقاطع مع طبيعة الحياة الإنسانية في تمثل الماضي وإدراك جوهر الحاضر، هذا الإدراك الذي يفتح الطريق إلى المستقبل.

إن أية تجربة إنسانية لا تنفتح على المستقبل تنتهي إلى التلاشي، إذ شهد التاريخ الإنساني منذ إطلالاته الأولى صراعات إقليمية ومحلية، وربما تواصلت هذه الصراعات فعرَّضت الحياة الإنسانية إلى حالات كارثية، لكنها لم تستمر، فتغيرت العلاقات بين المتصارعين وتحولت إلى علاقات إيجابية، ثم إن القوى ذاتها التي كانت في مرحلة تاريخية ما، وقود تلك الصراعات وضحيتها، طالما تغيرت مواقعها في الحرب والسلم، فالعدو يصبح حليفاً وقد يصبح الحليف عدواً.

ولو رصدنا بعض ردود الأفعال المحتفية بأحداث تاريخية، لوجدنا أن كثيرين من سلالات المهزومين يحتفلون بما عُدَّ في حينه انتصاراً، وهذا أمرٌ طبيعي، فالمتغيرات في الحياة الإنسانية أكثر تأثيراً مما يعد من ثوابتها، لكن الغريب حقاً، وهذا ما نشهده عند الكثير من المتاجرين بدماء غيرهم، إنهم يتجاهلون كل هذه المتغيرات، لأن إدراكها ليس في صالح تجارتهم.

فإذا كان قد تقاتل فلان وعلّان، قبل قرون، نجد أن من كان أسلافه في صف الأول، تدفع بهم المتغيرات إلى أن يكونوا من دعاة الانتقام ممن كان أسلافهم في صفوفهم، لأن مرجعياتهم الجديدة ومصالحهم أيضاً، اقتضت ذلك، وليس مما اقتضاه العقل والمنطق والموقف الموضوعي.

إن أي موقف يتكئ على التاريخ وحده، بمصادره التي لم تسلم يوماً من تأثير غياب الموضوعية، ينبغي أن يعتمد على العقل ألف مرة ومرة، والابتعاد عن العاطفة وترديد الببغاوات، ألف مرة ومرة أيضاً.

كاتب عراقي

16