عندما كانت البصرة مدينة بامتياز

في يوم ما كانت البصرة مدينة بامتياز، ومع أن المدن بأناسها وليس بأغلال العقد المصفد وفق تعبير وليم بليك عن البناء الكونكريتي، إلا أن البصرة كانت مدينة تدخل التاريخ بأنهارها! دعك من بيئتها الاجتماعية وتنوعها وانفتاحها… كان هناك العشرات من الأنهار الصغيرة التي تمتد بين أحياء البصرة، لا تكتفي بانسيابيتها بل تفتح طريق بناء المدينة وتوسعها الذي كان يسير وفق أهواء الأنهار، فهي من تشكل المدن وليس قوة المدن الاقتصادية من تفتح الأنهار. الأنهار الصناعية مجرد ضجيج بلا روح.
كل المدن العظيمة بنيت على الأنهار من دجلة بغداد ونيل الخرطوم والقاهرة حتى تايمز لندن وسين باريس ودانوب برلين وتيبر روما وهدسون نيويورك “ثلث مساحة مدينة نيويورك يتألف من المياه” بينما تتكيف المدن الخالية من الأنهار مع طبيعتها للاحتفاء ببديل جغرافي يشكل هويتها، لكنها لا تكف عن الحلم المستحيل بنهر يشق شغاف قلبها.
لولا حرّها اللاهب لكانت البصرة مع أنهارها الصغيرة فينسيا الشرق آنذاك، لكن مدينة مدن العراق عاشت النكبات تلو النكبات فعطشت وجفت أنهارها، وصارت أشبه بفلكلور فوتوغرافي في ذاكرة شيوخها ومتاحفها.
كان طعام فقراء البصرة أسماك وفيرة من أنهارها، روى لي مؤرخ البصرة الراحل حامد البازي في ثمانينات القرن الماضي كيف كان يعود العمال إلى منازلهم مساء محملين بمجموعة من أسماك الصبور. لكن من أين لأهل البصرة اليوم وفرة سمك الأمس!
اليوم البصرة مدينة هرمة، رثة، مستاءة، غاضبة بشكل دائم، مدينة بلا أنهار، وبلا ماء، وارتفع منسوب الملوحة في شط العرب إلى درجة عطش معها أهلها، لذلك يمكن أن يكون اسم مدينة المدن مجرد ذكرى ضائعة في أرشيف عتيق.
قد تكون البصرة مثالا موجعا على الإهمال بين مدن العالم برمتها، لكن الحقيقة أن الثورة الصناعية تكاد تقتل الأنهار في كل المدن، الثورة الصناعية دمرت الأنهار لأكثر من قرن. أعداد هائلة من سكان المدن الجدد غمروا الأنهار بمياه الصرف الصحي وانبعاثات المصانع. أغلب أنهار العالم ميتة بيولوجيا اليوم، والمياه فيها لا تدعم الحياة. فقدت الأنهار وظيفتها في العقود الأخيرة، وبدأت المدن في تنظيفها.
اليوم وتحت وطأة انتشار الوباء نشعر بحاجتنا إلى الأنهار أكثر من أي وقت مضى مع إعادة تشكيل المدن لمستقبل مختلف لم نفكر به قبل أن يعبث كورونا بحياتنا.
يتساءل كاتبي المفضل سايمون كوبر: كم نحتاج اليوم إلى الممرات المائية تشق المدن؟ ويجيب هذا سيحرر مراكز المدن. فالأنهار هي سبب وجود مدننا في المكان الذي هي فيه. نحن فقط نسيناها.