عمرو خليل.. إعلامي يفك شفرة ثلاثية السلطة والجمهور والإعلام

الإعلامي المصري يهوى السباحة مع بسطاء المصريين ضد تيار زملائه.
الخميس 2022/03/24
إعلامي يبحث عن تأدية دوره بمهنية

تسود في الوسط الإعلامي المصري قناعة لدى الكثير من أبناء المهنة أن إجراء الرئيس عبدالفتاح السيسي مداخلة هاتفية مع برنامج بعينه يعني أن المذيع قريب من السلطة ويتحرك في المساحة الموكلة إليه، لذلك يتم تكريمه بأن يتحدث إليه رئيس الدولة، لكن مداخلات السيسي في برنامج الإعلامي عمرو خليل على فضائية “سي.بي.سي” تبدو حالة خاصة.

وفاجأ الرئيس السيسي خليل على الهواء أكثر من مرة للتعقيب على الموضوعات التي يناقشها، والمناشدات التي يوجهها إلى الحكومة للاهتمام بالحالات الإنسانية التي يعرضها في برنامجه، وآخرها ما جرى الاثنين الماضي، حيث تحدث إلى برنامج عمرو خليل مرتين في أقل من عشر دقائق بعدما عرض معاناة سيدتين من سوء المعيشة.

وبدأ السيسي حديثه للمذيع بشكره على تبنيه لمثل هذه القضايا الإنسانية وتسليط الضوء على احتياجات المكافحين من بسطاء مصر، مشيرا إليه أن برنامجه يوسع رؤية الحكومة على أولويات الفقراء وأحلامهم من الدولة، ثم تعهد بتلبية كل مطالب السيدتين اللتين ظهرتا في البرنامج.

ولم تكن هذه المداخلة الأولى لرئيس الدولة معه، بل تكرر المشهد أكثر من مرة، ولم يظهر ليعاتبه أو يلومه على تسليط الضوء على سلبيات الحكومة في كونها لا تهتم بتحسين المستوى المعيشي لشريحة من محدودي الدخل، لأنه ليس من نوعية مقدمي البرامج الذين يجيدون تمجيد الحكومة على الدوام.

الشارع هو البوصلة

بوكس

اعتاد خليل أن يكون مختلفا عن الكثير من مقدمي البرامج الحوارية في اهتمامه بالقضايا الإنسانية المرتبطة بصميم احتياجات ومطالب الشارع، ولا يستهويه أن تسيطر الحكومة وقراراتها على السياسة التحريرية لبرنامجه ويرغب أن يكون مرتبطا بالجمهور ويسمع لصوته وينتقي منه حالات ليصل بصوتها إلى السلطة.

لا يعنيه إذا كانت القضية الإنسانية التي يطرحها في برنامجه تهم شريحة كبيرة من الجمهور أم تخص أسرة واحدة، المهم أن تتحسن ظروف الحالة التي يتحدث عنها إلى الأفضل، فهو لا يهوى كسب الشعبية بقدر ما يبحث عن تأدية دوره بمهنية، حتى صار من الوجوه المألوفة عند البسطاء وشرائح مختلفة ترتاح إلى طلته عليهم.

يمتلك مهارة التوازن بين توصيل صوت الشارع الممتعض من تدني المستوى المعيشي لكثير من فئاته، وبين الحديث عن إيجابيات الحكومة، عكس الكثير من مقدمي البرامج المنافسة التي صار الجمهور يتعامل معها بامتعاض لكونها تروج للخطاب الرسمي طوال الوقت، سواء أجادت الحكومة أو أخفقت.

وبالرغم من تغريده خارج السرب أحيانا وعدم تماهيه المطلق مع الاصطفاف الإعلامي خلف الحكومة يظل من المذيعين المفضلين للكثير من الوزراء وكبار المسؤولين، لأنه محاور هادئ ورصين يتحدث بعقلانية وأسلوب مرن ويُدرك أن مهمته الأساسية تنوير الرأي العام وليس توجيهه أو إجباره على الاقتناع بشيء غير حقيقي.

يوصف بأنه المذيع المبتسم طوال الوقت، بغض النظر عن القضية التي يناقشها أو الحالات الإنسانية الصعبة التي يعرضها أو الحوار الذي يجريه مع ضيف برنامجه، إذ يبدو طوال الوقت أنه واثق من نفسه ويرغب دائما أن يكون “واحد من الناس”، لا يختلف عن الذين يخاطبهم حتى يقبلوا رسالته.

هذه شخصيته بالفعل، حتى مع القائمين على إعداد برنامجه، حيث يتعامل معهم باعتبارهم أهم عناصر النجاح الذي حققه، فلا يبخس حقهم، ولا يتعامل معهم كنجم، وأصبح من القلائل الذين يتحدث عنهم أبناء المهنة بشكل إيجابي.

◙ خليل اعتاد أن ينتقي عباراته بدبلوماسية، مستغلا عمله السابق في التلفزيون المصري كمراسل بوزارة الخارجية وجامعة الدول العربية ورئاسة الجمهورية
خليل اعتاد أن ينتقي عباراته بدبلوماسية، مستغلا عمله السابق في التلفزيون المصري كمراسل بوزارة الخارجية وجامعة الدول العربية ورئاسة الجمهورية

تكفي مطالعة إحدى حلقات برنامجه الحالي “من مصر” على فضائية “سي.بي.سي”، للحكم على شخصيته وأدائه الإعلامي، حيث يتمتع بالرصانة والحكمة والصوت الهادئ ويتحدث بطريقة تخاطب كل الفئات، وينزل إلى مستوى شريحة البسطاء.

أهم ما يميزه أنه يعادي الخلط بين الآراء السياسية ومهنة المذيع، رغم كونه قضى أغلب مسيرته مقدما لبرامج يطغى عليها الطابع السياسي، لكنه تربى على أن الإعلامي ينقل الحقيقة المجردة دون انحياز لطرف ضد الآخر، وإن أشاد بالحكومة فهو يستند إلى وقائع محددة وأرقام وتقارير ومعلومات.

وسيط بين الحكومة والناس

اعتاد أن ينتقي عباراته بدبلوماسية، مستغلا عمله السابق في التلفزيون المصري كمراسل بوزارة الخارجية وجامعة الدول العربية ورئاسة الجمهورية، ويدرك جيدا كيف يحاور ضيوفه ويختار أسئلته، والمحظور والممنوع.

عُرض عليه في تسعينات القرن الماضي، وقت أن كان مراسلا للتلفزيون المصري برئاسة الجمهورية أن ينضم إلى الحزب الوطني الذي كان يدير الحكم إبان فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، لكنه رفض أكثر من مرة الدخول في معترك السياسة، حتى لا يؤثر ذلك على حياده.

الفارق بين خليل وكثير من المذيعين المصريين أنهم يتحدثون عن الحكومة في برامجهم بطريقة توحي للجمهور بأنهم وسطاء بينها وبين الشارع أو مندوبين عنها أو يتكلمون بلسانها، فلديه قدرة على التسويق للخطاب الرسمي بذكاء، وهي إشكالية تطرق لها السيسي من قبل عندما قال “لماذا لا يقتنع الناس بما تفعله الحكومة”.

وقتها ألمح الرئيس إلى أن المشكلة في الوسيط، أي المنبر الذي تخاطب الحكومة الناس من خلاله. فهناك مذيعون يعطون دروسا في الأخلاق للجمهور لمجرد أنه ممتعض على قرار بعينه، وآخرون يمجدون في أي مؤسسة ولو كان الغضب عليها عارما، وأغلب البرامج تتعامل مع المشاهد كأنه تلميذ يتم تلقينه.

يمكن من خلال حالة خليل اكتشاف المعضلة الحقيقة للإعلام المصري، فالأزمة ليست كلها في تراجع مساحة حرية الرأي والتعبير، بل في مقدمي البرامج أنفسهم. فهذا مذيع يتناول واقعا سلبيا لأسر تعاني من الفقر وتستغيث ويفتح مساحة للجمهور ليتنفس، وفي نفس الوقت يتحدث عن الحكومة بموضوعية.

ولا تريد الحكومة أو الرئيس نفسه إعلاما يجمل الصورة القاتمة ومنابر تمجد وقت الأزمات، لكنهما بحاجة إلى وجوه تتحدث بتوازن ووعي وإدراك بحجم التحديات الراهنة، لا مانع من تبني أو طرح وجهة النظر مؤيدة أو معارضة.

على أساس قاعدة العقلانية يتحرك خليل طوال مسيرته الإعلامية وأثبت يوما أن كل هذه السمات لا تُكتسب بالخبرات فقط بقدر ما هي صفات نابعة من الشخصية ذاتها، واتساقها مع نفسها، بدليل أن هناك شيوخا في المهنة تنقلوا بين منابر عدة ولا تزال لديهم أخطاء كارثية في أصول الإعلام.

بوكس

ما يعزز قبول خليل عند الجمهور أنه إذا تطرق إلى قضية بعينها يتناولها بعمق، ويقدم إعلاما قائما على التوعية والفهم، ويدرك أن المتلقين على قدر من الذكاء ويستطيعون التمييز بين ناقل الرسالة الإعلامية وهل هو محايد أم موظف ينقل صوت السلطة.

اختير أكثر من مرة للمشاركة في تقديم مؤتمرات الشباب والفعاليات الرسمية التي تنظمها الرئاسة المصرية ليدير جلسات حوارية يشارك فيها الرئيس السيسي، وفي كل مرة يبدو متزنا وواثقا من قدراته، ما جعله من المفضلين لدوائر صناعة القرار في مثل المناسبات التي تتطلب مذيعين متمكنين وعلى فهم وثبات شخصي.

لم يصل خليل إلى هذه المكانة إلا بمسيرة مهنية نجح خلالها في أن يثبت نفسه وسط أجيال متعاقبة كان بينهم عمالقة، فهو الذي تخرج من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية وتقدم للعمل كمترجم في القنوات المتخصصة باتحاد الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) عن طريق إعلان نُشر في إحدى الصحف.

بعد اجتيازه الاختبارات المؤهلة جرى اختياره للعمل بقناة النيل للأخبار وعمل خلالها لثماني سنوات وبدأت تجربته الإعلامية كمترجم ومحرر، حتى أسند إليه قطاع الأخبار بالتلفزيون مهمة ثقيلة، حيث تم إيفاده لتغطية بعض الحروب والنزاعات، منها حرب العراق عام 2003، ثم العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية خلال عامي 2005 و2006، وحصل وقتها على جائزة أفضل تغطية من حركة فتح.

كان نجاحه في مهمة تغطية الحروب، رغم حداثة عهده بمهنة المراسل التلفزيوني، نقطة فاصلة في حياته، واختير بعدها مباشرة للجلوس على كرسي المذيع لأول مرة على شاشة النيل للأخبار، وقدم عددا من البرامج الاجتماعية والسياسية والرياضية، حتى انتقل للعمل كمذيع بقناة الحرة الأميركية، وقام بتغطية أحداث ثورتي الخامس والعشرين من يناير 2011، وثلاثين يونيو 2013 بعيدا عن الإملاءات السياسية.

يظل الموقف الأسوأ في مسيرته المهنية عندما كان يقدم برنامجه اليومي على فضائية الحرة، وفوجئ بمجموعة من أفراد الأمن بالقاهرة تقتحم الاستديو في ذروة واقعة الصدام بين الشرطة ومحتجين أمام مبنى التلفزيون على نيل القاهرة في أكتوبر 2011، حتى اضطرت القناة لقطع البث، وكان ذلك اختبارا لثباته الانفعالي، حيث استكمل برنامجه والجنود خلفه إلى أن تم تسويد الشاشة.

البعد عن التهميش

◙ ميزة خليل عدم الخلط بين آرائه ومهنته، رغم مسيرته كمذيع التي طغت عليها السياسة
ميزة خليل عدم الخلط بين آرائه ومهنته، رغم مسيرته كمذيع التي طغت عليها السياسة

لم يتاجر بالواقعة أو يستغل الحدث لصناعة نجومية كي لا يفقد ما بناه طوال حياته، وتعامل بهدوء كعادة شخصيته، ويقول عن ذلك “كان بإمكاني أن أكون زعيما لكوني أعمل في محطة أميركية، لكن قناعتي الشخصية أن الذي يلمع سريعا ينطفئ سريعا، وأنا في مشواري أتحرك بمستوى ثابت ولو كانت الخطوات بطيئة في نظر البعض”.

عرفه الجمهور المصري أكثر بعد انتقاله من الحرة إلى فضائية “سي.بي.سي” المصرية، حيث اختير لتقديم برنامج ديني يحمل اسم “والله أعلم”، تقوم فكرته على محاورة مفتي مصر السابق علي جمعة، واستمر لثلاث سنوات، وكانت هذه النقلة المختلفة نقطة تحول في مسيرته، حيث ناقش قضايا وموضوعات فقهية شديدة التعقيد، وصار برنامجه من أهم وأشهر المنابر التي تتحدث عن الدين بطريقة عصرية.

ما ضاعف احترام الجمهور له أنه لم يوظف الجدل الذي كان يثيره مفتي مصر في بعض الحلقات لكسب مزيد من الشهرة أو البحث عن “الترند”، لكنه مع بداية كل حلقة جديدة يطلب من جمعة أن يرد على النقاط التي أثارها الناس بعد الحلقة السابقة ويحسم الانقسام حولها. فلا تستهويه إثارة الضجة أو مخاطبة جمهور المنصات بالغرائز.

بوكس

يبدو خليل متسقا مع ذاته إلى حد بعيد، ويظهر ذلك في غيرته الواضحة على ما وصلت إليه مهنة الإعلام، إذ لا يُخفي امتعاضه من تراجع دور مؤسسات إعلامية كان لها ثقل ونفوذ في الإقليم، وبينها ماسبيرو الذي صار من وجهة نظره أقرب إلى مؤسسة حكومية مسؤولة عن التوظيف فقط، بعيدا عن التطوير والهيكلة واستقطاب الكوادر المحترفة إلى درجة أنه بادر في إحدى لقاءات الرئيس مع الإعلاميين بمطالبته بسرعة تطوير التلفزيون الرسمي، لأن تهميشه ليس في صالحها.

لم ينس أن ينسب الفضل إلى ماسبيرو في تقديمه إلى الجمهور إلى درجة أن أنس الفقي وزير الإعلام الأسبق عندما طلب منه العودة إلى تلفزيون الدولة كان رده أنه إذا عاد سيكون ذلك بشكل تطوعي بأن يقوم بتقديم برنامج دون حصوله على مقابل مادي، المهم أن يستعيد دوره ورونقه، وهو الموقف الذي عكس أصالته المهنية والأخلاقية.

ويخلو رصيده من معارك إعلامية خشبية، حيث يؤمن بأن الشاشة ملك للجمهور فقط، وبطبيعته لا تستهويه الصدامات. والأهم أنه يتعامل مع الإعلام بتقدير كبير، ويرى أن المنافسة الوحيدة يجب أن تكون من خلال المحتوى والخطاب المفيد للناس، لا المذيع ولا شعبية القناة ولا الصوت العالي، ولذلك يضع لنفسه جملة من الخطوط الحمراء في مقدمتها محظور الإثارة في البرنامج.

ورغم النجاحات الإعلامية التي حققها لا يزال ينتظر تحقيق حلمه في تقديم برنامجين، الأول له طابع اجتماعي يكون قريبا أكثر من البسطاء يتخصص في عرض مطالبهم ومشكلاتهم وأحلامهم ورصد واقعهم اليومي باستمرار حتى يتغير جذريا، والثاني يحمل اسم “الشيخ والقس” وكشف اللبس والغموض والأفكار المغلوطة التي يوظفها المتشددون والتركيز على الجوانب الإيجابية المشتركة بين الإسلام والمسيحية. لأن ذلك هو المدخل المناسب لتعزيز المواطنة واحترام الآخر، وهو الحلم الذي يكشف بوضوح عن الجوانب الخفية في شخصية عمرو خليل الذي يتمسك بأن يتعامل مع الإعلام كرسالة مقدسة لا وظيفة تجلب الثروة والشهرة والنفوذ.

خليل يرفض أن تسيطر الحكومة على السياسة التحريرية لبرنامجه الذي أراد ربطه بالجمهور

 

12