عمال يشتعلون

الحوادث جزء من العمل. ما ليس من العمل هو إدراك خطورة الحوادث وعدم التحرك لمنعها. الأقسى هو فقدان الإحساس بأن العمال الوافدين في الخليج بشر تلفحهم شمس الخليج وتحرق جلودهم، بل وتقتلهم.
الأربعاء 2022/12/21
ظروف لا إنسانية

وفيات العمال في قطر مؤسفة. وسواء أكانت الوفيات بسبب الحوادث أم نتيجة التعرض لقيظ الخليج أم بسبب الانتحار، فإنها تترك أثرا غائرا في النفوس. لكنّ مشروعا عملاقا مثل إعادة تشييد البنية التحتية لمدينة مثل الدوحة، وبناء الملاعب والمنشآت المختلفة لاستضافة المونديال، كان سيؤدي إلى حوادث ووفيات مهما حاول المقاولون تجنب الكثير منها. هذا ما نستشفّه من تاريخ الإنشاءات العملاقة.

عندما تتجول في جزيرة مانهاتن في نيويورك تبهرك ناطحات السحاب. أبنية عملاقة في رقعة أرض صغيرة. تلك الأبراج السكنية والإدارية شاهدة على قدرة الإنجاز لدى الإنسان. الكثير من ناطحات السحاب، وخصوصا الأيقونات الشهيرة مثل مبنى أمباير ستيت (381 مترا) ومبنى كرايزلر (319 مترا) وروكفلر بلازا (259 مترا)، تم بناؤها في العشرينات من القرن الماضي وافتتحت في أوائل الثلاثينات. ما إن أتقن المهندسون المدنيون تقنيات بناء الهياكل الفولاذية العملاقة، حتى انطلق سباق ناطحات السحاب في مانهاتن.

وراء هذا الإبهار الهندسي الكثير من القصص الحزينة. قُتل أو أصيب إصابات بليغة اثنان من كل خمسة عمال أثناء تشييد تلك الأبراج خلال النصف الثاني من العشرينات وفق بعض الإحصائيات. كان العمال البيض أو السود أكثر عرضة للحوادث. وكان فقد التوازن من مسببات سقوط بعض العمال من ارتفاعات شاهقة. ليس من السهل العمل على ارتفاعات تتجاوز مئة متر، وكانت إجراءات الحماية ضعيفة بالمعايير العالمية الحالية. تسابق العمال لإظهار شجاعتهم في الجلوس وتناول الغداء أو شرب القهوة على عوارض فولاذية تربط بين أعمدة جبارة ذات ارتفاعات شاهقة بكل المقاييس. لكن مآسي الحوادث استمرت.

قرأت حكايتين مختلفتين عن الإجراء الذي اتخذه المقاولون للتقليل من حوادث السقوط من الارتفاعات الشاهقة. واحدة عن مراقب عمل انتبه إلى أن العمال من الهنود الحمر يحتفظون بتوازن مذهل وهم يمشون على العوارض رغم الارتفاع، وأن الإصابات بينهم شبه منعدمة. والحكاية الأخرى، أن مقاولا لاحظ أن الهنود الحمر من قبيلة الموهوك يعبرون مشيا على الأشجار التي تشكل جسورا على جداول الماء بلا إشكال. شيء يشبه توازن القطط وهي تمشي بلا أية صعوبة على الجدران. كان الهنود الحمر عمالا مفضلين لدى المقاولين في عمليات الربط بين الأعمدة والعوارض على ارتفاعات شاهقة. كانوا يسمّون “سكاي وولكر” أو “متسلّقي السماوات”. رغم هذا، كان انهيار جسر كوبيك في كندا سببا في خسارة هؤلاء المتسلقين سمعتهم التي ترتكز على انطباع أنهم محصنون من الحوادث، بعد وفاة 33 منهم في تلك الحادثة. لم يسقطوا من أعلى المنشآت الفولاذية، بل انهارت المنشآت الفولاذية من تحت أقدامهم. نجوا من حوادث السقوط ليواجههم حادث سقوط من نوع آخر.

الحوادث جزء من العمل. ما ليس من العمل هو إدراك خطورة الحوادث وعدم التحرك لمنعها. الأقسى هو فقدان الإحساس بأن العمال الوافدين في الخليج بشر تلفحهم شمس الخليج وتحرق جلودهم، بل وتقتلهم. هم صامتون وراضون بالمقسوم. لكن هذا لا يعني أن ما يحصل لهم مقبول.

أذكر احتجاجا غير مباشر شاهدته أكثر من مرة في عدد من المدن الخليجية؛ ثمة لافتة صفراء تنبّه المارين مكتوب عليها “عمال يشتغلون”. يقوم أحد العمال، ليذكّر بما يتعرض له هو ورفاقه من حرّ وشمس، بمسح النقطة من فوق حرف “غ”. اللافتة – الاحتجاج تصبح: “عمال يشتعلون”.

20