علي حرب يفك العقدة التي يعاني منها المثقفون العرب

يمكن الحكم على واقع الثقافة والمثقفين في العالم العربي بأن هناك خللا في وظيفة المثقف يبدأ من المثقف نفسه، ذاك المنزوي في برجه والواهم أنه يملك الحقيقة والحلول وغيره من خيالات، تجعله بعيدا عن واقعه وعن أي تأثير فيه. ما نحتاجه اليوم هو خطاب ثقافي نقدي شامل دون اصطفاف أو انحياز.
تراكمت في المدونة الثقافية مصطلحات ومفردات تشير إلى التطلع للقطعية مع زمن الانحطاط الفكري والحضاري. ويواكب العاملون في الحقل المعرفي سلسلة من الانتقالات المفاهيمية على المستوى الصوري غير أن ما يحول دون التمكن من اختراق السياقات التقليدية والانطلاق من حلقة التكرار نحو مرحلة الإبداع ليس إلا إدارة المعطيات الفكرية والمنحوتات الفلسفية بمنطق المماهاة والمطابقة، فيما البحث عن أفق للإمكان يجب أن يكون مبدأ للاشتغالات المعرفية.
ولا يعقل الانكباب على المبحث الفكري بالنفس الاستعراضي، لأن إطلاق الألفاظ المدوية واجترار المصطلحات الرنانة واستهلاك البضاعة الرائجة أعراض لاستفحال المحنة وتضخم أورام الوهم على الصعيد الثقافي، والحال هذه لا يصح الاستغراب من الارتداد على العقلانية وأن تنتهي الدعوة إلى التنوير بالتهاوي في الظلامية والتجهيل.
بالطبع إن هذا الوضع يتطلب قراءة كاشفة لظواهر متفاقمة في الواقع الحضاري. وهذا ما بادر إليه المفكر اللبناني علي حرب بحفرياته في تربة المشاريع الفكرية التي لم تكن حصيلة دعواتها إلى التنوير والديموقراطية والتحرر سوى مزيد من التزمت والاستبداد والتبعية.
مراوغة الخطاب
يرى صاحب “خطاب الهوية” أن جوهر الأزمة يكمن في فكرانية الأفكار التي تحيل العالم إلى عقائد مغلقة أو عقول مفارقة. ومن المعلوم أن هذه النظرة الاختزالية للأمور ومحاولة تطويع الكيانات المجتمعية والجماهيرية لإثبات صحة جملة من المقولات تؤدي إلى الاصطدام باللامتوقع والتخلف من حركة الفتوحات والاكتشافات الواعدة بخلق وقائعية جديدة، لأن العالم كما يقول حرب ليس نسخة من مفاهيم مسبقة ولا يتغير طبقا للائحة من أفكار جاهزة. إذن ما يحتاج إليه الوسط الفكري هو نقد المفاهيم وصوغها وتجديدها قبل أن تصير شعارات جوفاء وتنتج عكس ما أراد منها الدعاة والمنظرون.
ما يهدف إليه علي حرب هو الكشف عن مراوغة الخطاب بقطع النظر عن مستنداته سواء أكانت لاهوتية أو ناسوتية. وهذا الموقف هو شغله الشاغل في جميع تأليفاته لاسيما كتابه العلامة “أوهام النخبة أو نقد المثقف”، الذي أثار جدلا واسعا بين المؤيد لتضميناته والمعارض لها.
بخلاف جل المفكرين العرب الذين انتظمت مشاريعهم في سياق نقد الفكر الديني أو نقد العقل أو نقد الأيديولوجيا فإن علي حرب ينخرط في نقد النص فاصلا خط قراءاته من المسبقات والتهويمات، وبذلك تتسع حدود الإمكان للحفر والتحويل والصرف وفي هذا الإطار تأتي قيمة النصوص من كونها موادا للعمل وحقولا للتنقيب، الأمر الذي يفند القول بأن المبادئ والمشاريع صحيحة ويلقي بوزر الأخطاء على آليات التطبيق لأن هذا الفهم لا يجدي نفعا في صياغة المنطق التحويلي ويجرد النص من تواريخه التي هي تأويلاته وترجماته المتواصلة، كما يفرغه من طاقاته المجازية والرمزية.
والأهم في مسعى مؤلف “حديث النهايات” هو المسافة التي يتخذها من جميع الخطابات المعرفية والبرامج الفلسفية، إذ نجح في فك العقدة التي يعاني منها معظم المثقفين في نظرتهم إلى الفكر الغربي كما خرج من دائرة وهم المماهاة والمطابقة مع التراث والأصالة. ويستمد حرب مسوغه في اشتغاله التفكيكي من الدراية بإنشاء المقولات وإدراكه العميق بمناورات الخطاب وازدواجيته، لذلك يؤكد باستمرار على ضرورة توخي الحذر في التعاطي مع الخطاب، لأنه بطبعه يسدد المعنى من جهة لكي يخرقه من جهة أخرى.
ومن الأقوال التي يناقشها حرب كاشفا المحجوب والمضمر في بنيته هو ما نطق به ماركس بأن الأهم هو العمل على تغيير العالم وليس تفسيره أو فهمه. قد لا نحتاج إلى التذكير بأن هذا الكلام لا يزال متداولا في بورصة الثقافة. وما ينبغي أن يستنطق هو غير المصرح به أو اللامرئي في الجملة التعبوية، إذ أن صاحبها قدم فهما للعالم من خلال فلسفته المستوية على رجلها ومن ثم يستخف بمن يشتغل على الفهم، ما يعنى أن تفسيره قد نسخ تفاسير أخرى وقطع الطريق على أية مبادرات لاحقة.
ومن المفارقات التي يلتفت إليها علي حرب أن الماركسية نشأت على فلسفة التناقض والجدل، وانتهت كمشروع أيديولوجي لبناء مجتمع بشري خال من التناقضات والجدل، كذلك فإن الأحزاب الدينية التي أعلنت مقاضاة الدنيا بالآخرة وصل بها الأمر إلى استبدال النعيم الأخروي بجنة السلطة. وهذا المنحى النكوصي ينسحب على المثقفين والحركات الليبرالية بينما يدعو معشر الأنتليجنسيا إلى التنوير فإذا بك تتفاجأ بأن العلاقات القائمة بينهم أبعد ما تكون عن التنوير والديموقراطية.
ما يقوله المثقف عن نظيره في الشغل لم يقله مالك في الخمر. وبالتالي لا مبرر للعجب من تصاعد رصيد اليمين المتطرف لأن المثقفين الطليعيين فشلوا في تقديم بدائل مقنعة، وكانت الأسبقية للأقوال على الواقع في أجندتهم وفي ذلك جمود ومقتل للفكر الحيوي، كما يحدد علي حرب فإن مشكلة المثقف لم تعدْ مع السلطة ولا مع الجماهير أو المجتمع بل مع الأفكار التي تستر أكثر مما تكشف.
واللافت أن النبرة الخلاصية الغالبة على صوت الفقيه أو الداعية تتسرب إلى مداخلات المثقف التنويري الذي يقيم علاقة مع مقولاته على مبدأ الدفاع والترويج، ومن الواضح أن ما يؤول إليه هذا النسق من التفكير هو واقع بائس وأوضاع مزرية. ويستعيد صاحب “مابعد الحقيقة” محنة طه حسين بعد إصداره لكتابه الشهير “في الشعر الجاهلي”، فمن حمل عليه واتهمه بالإساءة إلى الدين هو الشيخ الأزهري، غير أن القاضي المتنور قد حكم ببراءته أما الذي كفر نصر حامد أبو زيد فكان زميله في الجامعة المصرية. وهذا يشهد على صوابية رأي محمد أركون الذي قال بأن التاريخ يسير بالمقلوب في مجتمعاتنا.
مجمل ما يمكن قوله بشأن ما يسود في المعترك الثقافي أن النقد ينبغي أن يرتد نحو المثقف وعدته وأوهامه ومصارحته بأن نخبويته قد أودت به نحو العزلة والجمود والاغتراب الأجوف عن المجتمع، وإبلاغه بأن زمن الوصاية والقول الفصل والاستئثار بمفاتيح الحلول قد ولى.
ولا يستثنى حرب المثقفين والفلاسفة الغربيين من مرمى متابعاته النقدية فبنظره أن الفلاسفة والمفكرين من أفلاطون إلى رسل وسارتر ينجحون في تحليل الواقع البشري بإنشاء تراكيب مفهومية راصدة لكل أبعاده وصراعاته، لكنهم يناقضون أنفسهم عندما يتصرفون كمصلحين ومناضلين. وما يعاد إلى المسرح ليس المنحى العقائدي والأيديولوجي في أدبيات الفلاسفة إنما النصوص التي تفتح إمكانا للتفكير ولا تستنفد مفاعيلها على مر الزمن.
الليبرالية الفكرية
تتعقد مشكلة المثقف ويغيب دوره الفعلي مكتفيا بالحضور الشكلي لأن إرادة العقيدة تسبق إرادة المعرفة في منهاجه. كما أن توهمه بالقبض على الحقيقة يضيق عليه زاوية النظر إلى أن يقع في مطب التفسير الأحادي للظواهر ولا يمكنه قراءة الوقائع من منظور مركب. والأدهى من ذلك هو قناعته الحديدية بأنه ينفرد بالحكمة وحظوة فض المغاليق والمعضلات الخانقة، لكن ما يسفر عن كل هذه الهوامات ليس سوى تبعثر الأوراق والخلط في التقدير.
لا شك أن تفكيك الانسدادات يستدعي ما يسميه علي حرب بالليبرالية في الفلسفة والتفكير بمعنى عدم التبعية للأفهومات والمذاهب الفلسفية والعبارات المستوردة أو المستعادة. ويعوض كل ذلك بإتقان لغة الخلق والفتح والكشف وما ينبغي كسره في التعامل مع الأفكار هو منطق الاستقطاب بين ثنائيات العقل واللامعقول لأن العقل لا يتوقف عن إنتاج لا معقوله أو الفلسفة وما يقع ضمن تفاصيل الحياة اليومية، لأن المبحث الفلسفي يتغذى فعليا على ما كان يستكبر عليه من اللعبة والموضة والطبخ.
يرمي حرب في حفرياته المعرفية إلى كشف الغطاء عن الشطر اللامرئي في الخطابات المهيمنة، إذ يتضايف برأيه الوهم والفكر لافتا إلى ما يقوله مانويل دي دياغيه بأن “كل فكر له طوطماته، فالسحر والخرافة والقداسة والدين والغيبيات هي أشكال وأبنية وعلاقات لا تنفك تحضر وتمارس داخل عقل واحد”، ومن الضروري الاعتراف بأنه لم يعد هناك طرف يمكنه مصادرة المشهد بل يشارك كل من يخلق وينتج في مجال عمله في تركيب الصورة سواء أكان فيلسوفا أو لاعبا.
وما يشير إليه حرب في ختام كتابه “مابعد الحقيقة” أن الاستغراق في عالم الفكر قد يؤدي إلى نسيان الوجود وحجب الوقائع وهذا يسبغ على الأفكار أختام الأصولية. إضافة إلى اشتغاله على المفاهيم والخطابات السائدة محاولا الإبانة عن المساحة المعتمة في تشكيلتها المركبة يتناول علي حرب في مؤلفاته طبيعة الكائن البشري وما جبل عليه، فبرأيه إن الأصل في الإنسان هو الهوى والطمع والعصبية والعدوان أما التعقل والحكمة والتدبير صفات مكتسبة تحتاج إلى أعمال الترويض والمراس والإتقان، وبناء على هذه النظرة يميز مؤلف “الحب والفناء” بين العقل الأداتي أو الحسابي والعقل بنسخته الأرسطية أو الفارابية أو الديكارتية، فالنوع الأول يحقق المعجزات يوما تلو آخر أما النوع الثاني أي العقل بوصفه جامعا لبني الإنسان لا يتقدم بل يتراجع عن ذي قبل.
النبرة الخلاصية الغالبة على صوت الفقيه أو الداعية تتسرب إلى مداخلات المثقف التنويري الذي يقيم علاقة مع مقولاته على مبدأ الدفاع والترويج
تشمل عملية النقد لدى علي حرب المحاولات الرامية لربط النتاج الفكري والفلسفي بشعب من الشعوب أو بمنطقة جغرافية معينة فهو يعتقد بأن ابن عربي أكثر مرونة عقليا وفكريا من هيغل كارل بوبر وهيدغر لأنهم قد خلعوا الطابع الإغريقي على الفلسفة والعقل بينما يقول صاحب “فصوص الحكم” لقد صار قلبي قابلا كل صورة.
يعتبر حرب بأن الفكر الصوفي، وعي حاد بمحنة المعنى وإشكالية الحقيقة بتوتر الفكر وقلق الذات لذا يواصل التمرس عليه، والملاحظ في مسيرة علي حرب الفكرية أن معجمه يقوم على مفردات صوفية “الكشف، الحجب، الفتح” غير أن استعارته من القاموس الصوفي تستند إلى منطق تحويلي على غرار ما يفعل ذلك مع الفلاسفة، فالتحويل المبدع فلسفيا هو الذي يحيل ما ليس بفلسفة إلى عمل فلسفي خارق”.
ما يجدر ذكره في هذا المقام أن النقد ليس معادلا للنفي والإقصاء بل هو بحث عن الإمكان بدلا من الاستهلاك، استكناه لدينامية الخطاب ومكر اللغة والصامت في الكلام والكامن في المفاهيم، وبهذا يشب التفكير من طوق الشعارات ويتم كسر جليد الثبوتيات. ولا يكون التعالي على الواقع عنوانا للاشتغال الفكري، ومن المناسب أن يختم القول بنقد المؤلف لتمظهرات الحضارة الحديثة فبنظره لم يعد الغرض من الإنتاج المنفعة والراحة، ولا هو يبني تعبيرا عن جمالي أو ميل غرائبي إنما الهدف من الإنتاج هو مراكمة الثورة والتكاثر.