علينا البحث عن الغزلان الرشيقة والابتعاد عن السلاحف

قبل عقدين من الزمن لم يكن للإنترنت دور بارز في دوائر السياسة الخارجية سوى كونها وسيلة اتصال حديثة، وإن الأثر الناشئ والمحتمل للإنترنت على العلاقات الدولية مسألة ناشئة وحديثة لمخططى السياسات وصانعى القرارات داخل دوائر وزارات الخارجية باعتبارهم لا زالوا منهمكين بفكر وعقل العصر الصناعي.
فعندما ألقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون خطابا هاما في يناير 2010 حول حرية الإنترنت وأهميتها، وكذلك خطورة الإنترنت والعواقب الوخيمة التي قد تخلفها، ودور السياسية الخارجية الحديثة تجاه الإنترنت، وجعلت منها قضية أولوية بالنسبة إلى وزارة الخارجية الأميركية كان ذلك تدخلا جريئا وجديدا.
آنذاك اعتبر العديد من خبراء العلاقات الدولية وقادة السياسة الخارجية في العالم خطاب كلينتون بمثابة ضياع للوقت، وأن هناك أمورا خطيرة وأهم من أولوية الإنترنت، وذلك ناتج لعدم امتلاك العديد من وزارات الخارجية لخبراء في مجال التكنولوجيا الرقمية في ذاك الوقت، وعدم قدرة العديد من الدول عبر وزاراتها للخارجية على التنبؤ بالعلاقة التبادلية الكامنة ما بين القيادة السياسية والمجتمع المعلوماتي الناشئة في مهدها.
وبالتالى عندما ظهرت WikiLeaks،Stuxnet ،Arab Spring ، Jizy Park، كعامل في تشكيل الحركة السياسية الاجتماعية في صورة علاقة إلزامية لوزارة الخارجية مع المجتمع المعلوماتي، واحتشدت غالبية وزارات الخارجية للحاق بالأحداث وبناء العلاقة التبادلية المفقودة والضائعة، كان القطار قد رحل، في حينها وجدت وزارة الخارجية نفسها تعمل على مواكبة الأحداث وليس على صناعة الأحداث والتأثير في مجرياتها للاستفادة منها في صناعة القرار السياسي والسلام المجتمعي.
وبالتالي فإن غالبية السفارات في جميع أنحاء العالم لم تستطع التنبؤ بهذا، ولم تدرك أهمية وخطورة العصر الرقمي، الأمر الذي ترتب عليه ضرر كبير بالأمن القومي لتلك الدول وإمكانية الدفاع عنها في الوقت الميت وفي الزمن القاتل.
وبالتالي إن التكنولوجيا التحويلية الآن شبه غائبة عن أجندة الدبلوماسية والسياسة الخارجية وسيؤدي هذا الغياب أو التجاهل إلى إلحاق ضرر كبير بالأمن القومي للدولة والدفاع عنها في المستقبل المنظور، كون مصالح السياسة الخارجية للدولة ستصطدم بمعايير الأمن الإنساني والحرية الإنسانية وحقوق الإنسان عبر الإنترنت.
كما ستصطدم بالسيادة في الركن الافتراضي وما يترتب عليها من بروز قضايا الإرهاب الرقمي، وذلك نظرا إلى التطور والتحول السريع والهائل في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي وإشكالياته المتعلقة بحرية التعبير والنشاط المدني والتقدم الاجتماعي وصناعة التطبيقات وابتكار البرامج.
ستقف القيادة السياسية عاجزة أمام التدفق الهائل من المعلومات التي سيتم تصنيفها وتحليلها وتبويبها بتقنية الذكاء الاصطناعي والتي ستكون أقوى من ذكاء الدبلوماسي التقليدي مهما كانت فخامة زيه الرسمي وبريق رائحة عطوره ولمعان حذاءه وجودته، فهو متشبع بفكر وعقل سياسات العصر الصناعي حتى وإن كان قد عاصر العصر الرقمي، فالحوسبة والرقمية ليست من جيل الدبلوماسي التقليدي، فهو واكبها في نهاية حياته الوظيفية، على خلاف الجيل الرقمي والذي يعتبر تكنولوجيا المعلومات ثقافة عصره.
الجيل الرقمي جيل يسبح بسرعة الضوء دون حدود جغرافية ودون قيود فكرية، أما الدبلوماسي الهرم فيرى في الحوسبة والرقمية تطورا تجب مواكبته والتفاعل معه فقط، ولكن جوفه وعقله لازال يسبح في فضاءات أخرى مثل القومية والعروبة وربما لا زال يعشق كلمة الساحة مقدسة، على خلاف الجيل الرقمي فهو جيل التكنولوجيا الرقمية وبالتالي هو قادر على فهم خطورة التكنولوجيا التحويلية ومواكبتها والاستفادة من تطوراتها في مجال التقنيات الروبوتية وثورة الذكاء الاصطناعي.
يجب البحث عن غزلان رشيقة تتميز بعقول فذة والابتعاد عن السلاحف الهرمة لمواكبة التطورات السريعة والهائلة والمتلاحقة والتي تتسم بعدم المحدودية وبالانتشار بسرعة الضوء.
وبالتالي إن تجاهل التكنولوجيا التحويلية من قبل القيادة السياسية والدبلوماسية الخارجية ستترتب عليه عواقب وخيمة، بعيدة المدى وشديدة التأثير، وستلحق ضررا كبيرا بمستقبل الدولة وتحديد مصيرها في ما يتعلق بحياة الشعوب واستقرارها ورفاهيتها ومستقبلها.
إذا نؤكد في هذا المقال الموجز على أن الذكاء الاصطناعي بمنزلة الإعصار أو التسونامي الذي سيغير كوكبنا، ولن يترك مجالاً من المجالات إلا ويحدث فيه أثرا، وسيجعل الكثير من المسلمات التي تعارف عليها البشر لعقود طويلة محل جدل ونقاش، وليست السياسة ببعيدة عن دائرة تأثير الذكاء الاصطناعي، سواء على مستوى العلاقات بين الدول، وتوازنات العلاقات الدولية وتفاعلاتها بشكل عام، أو على مستوى السياسات الداخلية للدول، وآليات صنعها وممارستها وطبيعة الأطراف الفاعلة فيها.