على جميع الدول تشجيع الاستيلاء الثقافي والاحتفاء به

تعاقبت الحضارات والثقافات البشرية، وتمازجت بشكل لم يعد معه الفصل الكلي في ما بينها ممكنا، وتبقى الدعوات التي تتصاعد هنا وهناك للفصل الكلي في ما بين الثقافات والتوجهات إلى خلق ثقافات نقية بشكل تام، محل جدل دائم، وهو ما تواجه به الدعوات المتجددة المناهضة لـ”الاستيلاء الثقافي”.
إذا كنت من محبي اليوغا، ولكن ليست لديك أصول هندية، فيجب أن تطوي سجادة التمارين وتبتعد في خجل، ولا تنحني أو تمارس تمارين التمطي المستلهمة من اليوغا مرة أخرى.
تلك، على الأقل، هي الفكرة التي نستخلصها من الهجوم الأخير الذي شنته حركة الاستيلاء الثقافي، وعلى حد تعبير صحيفة الغارديان الجاد بكل مرارة في المملكة المتحدة، فإن “الاستيلاء الثقافي من قبل قطاع الصحة، الذي يديره أصحاب البشرة البيضاء، على اليوغا هو شكل من أشكال الاستعمار في القرن الـ21”.
اليوغا الهندية
في عالمنا الحديث والقائم على العولمة من الأنسب تبني ما يسمى بـ"الاستيلاء الثقافي" والنظر إليه على حقيقته
يعرف قاموس كامبريدج مصطلح “الاستيلاء الثقافي” بأنه ”أخذ أو استخدام أشياء من ثقافة ليست بثقافة المستخدم، خاصة حين يكون ذلك دون فهم أو احترام لتلك الثقافة”.
ويضرب القاموس بعض الأمثلة لذلك، مثلا “يرى البعض أن استخدام البيض للموسيقى الأفريقية بمثابة استيلاء ثقافي”، وذلك بالطبع خبر سيء لبول سيمون ومحبي ألبومه الصادر في عام 1986 “ذارقريس لاند”.
ولكن صرخات “الاستيلاء الثقافي” الغاضبة تميل إلى إخفاء مخطط ضيق، يدعو للانعزالية، والذي يظهر جليا إذا ما بدا المرء في التفكير المتوازن في هذه القضية.
وفي حين يزعم مناهضو “الاستيلاء الثقافي” أن الهند لا بد أن “تستعيد” اليوغا، فليس هناك أي اقتراح متبادل بأن الهند لا بد أن تتخلى عن لعبة الكريكيت المحبوبة، وهي اللعبة الإنجليزية الأصل، أو أنه على بقية العالم التخلي عن كرة القدم (ويطلق عليها المسمى الأميركي “سوكر”)، أو حتى لعبة الركبي وكل الألعاب التي ظهرت في المملكة المتحدة.
أما بالنسبة إلى لعبة البولو، فإذا أردنا اتباع نفس “موقف اليوغا” وتعميمه كمبدأ، فيجب إعادة جميع المضارب والأحصنة على الفور إلى إيران، حيث من المفترض أن اللعبة ظهرت بغرض التدريب لسلاح الفرسان الإيراني منذ أكثر من 2000 عام.
ويمكن تصوير الاستيلاء الثقافي على أنه أمر سيء من قبل أولئك الذين يحملون فؤوسا لقطع دابر الاستعمار، بينما نقد الفكرة لا يخلو من المخاطر. وإذا تمكنت الهند، من خلال تطبيق غريب لقوة غامضة، من إجبار بقية العالم على التخلي عن اليوغا، فمن سيكون المستفيد؟
لن يستفيد من ذلك المتفانون في ممارسة اليوغا من الغربيين، الذين سيشيخون من دون ممارسة تمارين التمطي، ولن تستفيد الهند نفسها، إذ ستخسر اليوغا بوصفها سفيرا للقوة الناعمة، وجسرا لربط العالم بجذورها الروحانية القديمة.
الأفكار تسافر وتندمج الثقافات في ما بينها، والأمم تمارس التجارة ويهاجر الناس وتتطور بذلك الحضارات. وكما قال بول سيمون أثناء رده عن الجدل حول غريسلاند في مقابلة عام 2011 “الجميع مستفيد، هذه هي الطريقة التي تنمو بها الموسيقى وتتشكل“.
إن السعي إلى حماية واحتكار أي جانب من جوانب أي ثقافة من الثقافات هو ممارسة لا طائل منها، مثله مثل محاولة حصر أين يبدأ وينتهي المد والجزر في مياه البحر، فالثقافات متشابكة بشكل لا يمكن فصله، يكفي أن تسحب خيطا واحدا، وكل شيء سيتفكك.
ضرورة الاستيلاء
إذا عدنا بالزمان إلى الوراء بما فيه الكفاية، فسنجد أن كل شيء في العالم هو نتاج الاستيلاء الثقافي، من البيتزا والكاري والفوندو والسمك والبطاطا، إلى الهندسة المعمارية والزراعة والموسيقى والفن، إلى التنانير والموسيقى وخطوات الرقص والمكياج وأجهزة الكمبيوتر والوشم والكهرباء والنقانق والديمقراطية ومحرك الاحتراق الداخلي والدين وركوب الأمواج وحتى الكتابة، فقد بدأ كل شيء في مكان ما وانتشر إلى كل مكان.
إن بوتقة انصهار الفكر والإبداع الإنسانيين تفيدنا جميعا، ومحاولة الاحتفاظ بأي عنصر للاستخدام الحصري لمجموعة واحدة، أو حظر أي شيء لم ينشأ من داخل المجتمع المحلي، هي فكرة مستحيلة وتمهد للهزيمة الذاتية.
وكمثال على مدى تعقيد هذا الموضوع، اتهمت نجوزي فولاني، وهي امرأة بريطانية سوداء، مؤخرا أحد أفراد الأسرة المالكة في بريطانيا بالعنصرية لسؤالها من أين “أتت حقا”، ولكنها أيضا اتهمت – من قبل بريطانيين سود آخرين – بالاستيلاء على الثقافة الأفريقية.
وعلى الرغم من ولادتها في المملكة المتحدة من أصل كاريبي، اختارت فولاني تغيير اسمها من مارلين هيدلي وتبنت اللباس الأفريقي. لكن لماذا لا تفعل ذلك؟ إذ كان لها رابط مباشر بتراث غرب أفريقي (ويبدو أن منتقديها قد نسوا أن المجتمعات السوداء في منطقة البحر الكاريبي نشأت في أفريقيا)، فأمام المرء خياران: إما الشعور بالإساءة من “استيلاء” فولاني، أو الترحيب به كمثال إيجابي للتبادل الثقافي.
السعي لحماية واحتكار أي جانب من جوانب أي ثقافة من الثقافات هو ممارسة لا طائل منها نتيجتها الانغلاق
وقد تجلى ذلك العنصر الإيجابي في كأس العالم والذي أقيم في قطر مؤخرا، حيث اتُّهم مشجعو كرة القدم الغربيون الذين ارتدوا الغترة، وهي غطاء الرأس التقليدي المفضل في قطر، في بعض الأوساط بالاستيلاء الثقافي، ولكن لم يحدث ذلك من قبل القطريين أنفسهم، الذين بدا أنهم أحبوا الفكرة.
وكان هناك ليونيل ميسي، الذي لفه أمير قطر بالبشت، وهي العباءة العربية التقليدية، كبادرة احترام بعد فوز الأرجنتين بكأس العالم. وإذا وضعنا جانبا نوبات العنصرية غير المحسوبة عبر العديد من وسائل الإعلام الغربية، لقد كان ذلك مثالا دراماتيكيا على التبادل الثقافي.
لا أحد يقترح هنا أن الأرجنتينيين سيبدأون في ارتداء البشت، لكن ظهور ذلك الثوب على المسرح العالمي، والحوار الذي أثاره، سيقدم للملايين لمحة عن ثقافة كانت حتى تلك اللحظة، في أحسن الأحوال، لغزا بالنسبة إليهم، أو كانت في جانب من جوانبها ثقافة مشوهة.
وفي عالمنا الحديث والقائم على العولمة، من الأنسب بكثير تبني ما يسمى بـ”الاستيلاء الثقافي” والنظر إليه على حقيقته وهو: التبادل الثقافي، والقوة الدافعة للحضارة، والتقدم البشري منذ أن طور السومريون لأول مرة وبدأوا في تصدير البرونز من بلاد ما بين النهرين إلى بقية العالم المعروف آنذاك.
وباعتباره شريان الحياة للحضارة، ينبغي تشجيع الاستيلاء الثقافي والاحتفاء به، وليس فرض الرقابة عليه، فمن دونه سيظل الجميع خارج بلاد ما بين النهرين يعيشون في العصر الحجري.