علاقة تونس بالمؤسسات المالية الدولية: الحل في التفهم

ليس من مصلحة صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي القطيعة مع تونس وتركها تواجه مصيرها لوحدها في ظل استحكام أزمتها المالية. والأفضل للطرفين هو البحث عن مشترك ولو بحده الأدنى، أي مساعدة تونس على الانتقال من وضعها الصعب عبر التمشي التدريجي، ودعم الإصلاحات الممكنة حاليا، وتأجيل النقاش بشأن عناصر الاختلاف إلى وقت لاحق.
لا صندوق النقد ولا البنك الدولي ولا الدول التي تحوز على نسب أكبر فيهما من مصلحتهم جميعا أن يمنعوا تونس من تحصيل تمويلات ولو في الحد الأدنى لتسحين وضع اقتصادها ومساعدة مؤسساتها الصغرى والمتوسطة على النهوض والعودة لاستقطاب العمالة والتقليل من دائرة البطالة التي اتسعت بشكل كبير منذ جائحة كورونا.
ماذا سيستفيد الصندوق من تعميق أزمة تونس خاصة أنه يمنعها من الحصول على تمويلات من جهات أخرى بما في ذلك الاتحاد الأوروبي أو دول الخليج. الجميع يشترط التمويل والاستثمارات بالاتفاق مع الصندوق.
هناك تصلّب غير مفهوم تجاه تونس، خاصة بعد الكلام الذي أطلقه ممثل الصندوق في الشرق الأوسط جهاد أزعور، الذي اشترط أن تقوم بتونس بإلغاء الدعم بشكل كامل من أجل العودة إلى دراسة ملف القرض الذي تطالب به، والمقدر بـ1.9 مليار دولار على أربع دفعات.
◙ ماذا سيستفيد الصندوق من تعميق أزمة تونس خاصة أنه يمنعها من الحصول على تمويلات من جهات أخرى بما في ذلك الاتحاد الأوروبي أو دول الخليج
هذا الشرط يبدو أقرب إلى موقف سياسي منه إلى أسلوب مؤسسة مالية دولية عرفت بالمرونة في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية خلال عقود. ذلك أن الدعوة إلى إلغاء الدعم تعني آليا الاصطدام بالرئيس التونسي قيس سعيد الذي يرى في رفع الدعم أو إلغائه "خطا أحمر" يمس من مقاربته في الحكم وشعبيته.
والمفروض أن الصندوق يتعامل مع موقف قيس سعيد ليس بالتصعيد، ولكن بالحوار، خاصة أن الصندوق نفسه سبق أن فرض إصلاحات في موضوع الدعم قادت إلى احتجاجات كبيرة في عدد من دول الشرق الأوسط ضمن مقاربته للإصلاح الهيكلي، واضطر إلى سحبها.
لا يمكن تنفيذ إصلاحات اقتصادية بمنأى عن البعد السياسي وعدم الأخذ في الاعتبار وضع البلد المعني. وضع مصر أو الأردن غير وضع تونس التي تعيش منذ ثورة 2011 مسارا انتقاليا بسبب الخلافات السياسية وإعطاء الأولوية للانتقال السياسي وبناء المؤسسات وتحديد شكل نظام الحكم وغلبته على البعد الاقتصادي.
من الصعب أن تقف المؤسسات المالية على الربوة بانتظار الاستقرار السياسي الذي يرتبط بعوامل مختلفة من بينها الاستقرار الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة لدى الناس. وهذا الدعم يتم بقطع النظر عن الجهة الحاكمة، هو دعم لدولة ولنمط اقتصادي يحتاج إلى الإصلاح والتصويب.
صحيح أن الاستقرار السياسي مهمّ في مقياس الصندوق قبل ضخ الأموال لأيّ جهة، لكن وضع تونس مختلف والاستقرار السياسي بالنسبة إليها هو تضبيط شكل النظام وليس هناك مخاوف على المديين المتوسط أو البعيد على الاستقرار الأمني.
ويعتقد على نطاق واسع أن اللجنة التي سيرسلها الصندوق إلى تونس خلال ديسمبر القادم ستنجح في إذابة الجليد بين الطرفين، وأن تضع لبنات لتعاون متدرج وبعيد عن الصخب الإعلامي أو عن الخطوط الحمراء السياسية. الصندوق سيدفع إلى علاقة جديدة بعيدا عن الحدية التقليدية والشروط المسبقة التي وضعها ممثله أزعور، وتونس لا شك أنها لن تفوّت الفرصة من أجل كسر حالة الجمود مع الصندوق الذي بات وجهتها الوحيدة لتحصل تمويلات ذات قيمة.
وتحاول الحكومة التونسية أن تصل إلى معادلة تتيح البدء بالإصلاحات كما يريدها الصندوق، وفي الوقت نفسه عدم اختراق الخطوط الحمراء التي وضعها الرئيس سعيد، ومنها المساس بملف دعم المواد الأساسية، والتفويت في الشركات الحكومية.
يشار إلى أن الحكومة بدأت فعليا في تنفيذ إصلاحات، وهو ما كشفت عنه ردود الوزراء على تساؤلات نواب البرلمان، لكنها إصلاحات جزئية وتهدف بالأساس إلى تعبئة الموارد المالية لميزانية 2024، وخاصة الإيفاء بالتعهدات المالية الخارجية وتسديد الديون.
ويمكّن هذا التوجه، القائم على الحد من الإنفاق غير الضروري وزيادة الضرائب على قطاعات مثل الفنادق والمقاهي والبنوك، من توفير جزء من التمويلات الداخلية لتضبيط الميزانية.
وتستطيع إعادة توجيه مواردها للميزانية من تحرير مبالغ كان يفترض أن توجه لتلك المشاريع. وهنا تربح مرتين، أن المشاريع تحت عين البنك الدولي وأن المال الإضافي يمكن أن يذهب إلى الميزانية من دون الضغوط المصاحبة لقروض صندوق النقد.
ولطالما طالب خبراء بضرورة استثمار التمويلات التي تحصل عليها تونس من الداخل أو الخارج، مثل قروض البنك الدولي، أو مؤسسات مالية أوروبية أو أفريقية، في مشاريع استثمارية لتعزيز النمو الاقتصادي في البلاد، وانتقدوا زيادة الاقتراض وتبديد تلك الأموال في مجالات الإنفاق.
ويفترض أن الرئيس سعيد قد وقف، منذ استلامه كل صلاحيات الحكم من يوليو 2021، على واقع الدولة وظروفها وإمكانياتها، وخاصة على حقيقة أن النظام الاجتماعي الذي تلعب فيد الدولة دورا محوريا، لم يتم ما لم تغير الحكومة ومختلف المؤسسات العائدة للدولة من أدائها، وأن تكف عن الإنفاق الاستعراضي في الإدارة، وأن تغير الأولويات من التوظيف والإنفاق والدعم الاجتماعي إلى مسار الاستمارات ودعم الاقتصاد وإسناد المؤسسات الصغرى من أجل خلق الثروة والتمويلات من الداخل وليس جلبها من الخارج وإنفاقها على مؤسسات حكومية فاسدة مفلسة أو على خطاب شعبوي يستهدف رضاء الناس دون مصارحتهم بالوضع ودعوتهم إلى التقشف.
◙ الحكومة التونسية تحاول أن تصل إلى معادلة تتيح البدء بالإصلاحات كما يريدها الصندوق، وفي الوقت نفسه عدم اختراق الخطوط الحمراء التي وضعها الرئيس سعيد
وكلما استعجلت الدولة ملفات التفويت، أزالت عن نفسها عبئا ماليا وإداريا كبيرا، خاصة أنها تعيش أزمة مالية حقيقية، ولا تمتلك ترف الإنفاق على مؤسسات من الصعب إحياؤها بعد أن فقدت اسمها وسطا المنافسون على سوقها.
ولأن الحكومة لديها مشاغل وتحديات كثيرة، من الأفضل أن تترك هذه الشركات لرجال أعمال لإدارتها، حتى لو بيعت بسعر رمزي فإن الدولة التونسية تبقى رابحة لأنها ستوفر لنفسها رواتب ومصاريف وتتجنب خسارة قد تمتد لأشهر أو سنوات.
ويمكن بالأموال التي سترصد لإحياء شركات مصادرة أو شركات حكومية فاشلة أن تستثمر في مشاريع جديدة، وضخ تمويلات للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحسين مناخ الاستثمار من أجل توفير مواطن عمل لخريجي الجامعات ومراكز التكوين والمتسربين من مستويات التعليم المختلفة، الذين لا يجدون من خيار أمامهم سوى المغامرة بالهجرة غير النظامية.
كما أن الأموال التي تنفق سنويا لتغطية عجز الشركات الحكومية يمكن أن تعطي فرصة مريحة للدولة لإظهار عمقها الاجتماعي من خلال رصد ميزانية لمساعدة الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل.