علاقة الإنسان بالمروي

علاقة الإنسان بما يروى، سواء كان الذي يروى، خيالا أم واقعا، أو هو نتاج تداخل الخيال بالواقع، علاقة قديمة، وظلت ذاكرة الناس، أفرادا وجماعات، تحتفظ بأحداث الماضي وتضيف إليها، فأنتجت ملاحمها وأساطيرها، وكانت تلك الملاحم والأساطير التي بدأت قبل عصر الكتابة، أساس كل معرفة، بل أساس كل خصوصية ثقافية.
وليس مصادفة، أن تكون لكل حضارة ملاحمها، وأن تتألف هذه الملاحم من عدد من الروايات وعدد من المصادر، تجتمع بمرور الزمن في نص مكتوب، يتحول إلى ما يشبه الكتاب القومي لتاريخ أصحاب هذه الحضارة.
إن الملاحم القديمة، سواء التي أنتجتها الشعوب الجزيرية، التي استوطنت العراق وبلاد الشام ومصر وضفاف الخليج العربي وبحر العرب، أم الملاحم الإغريقية والرومانية والهندية والفارسية والصينية، تكاد تكون جميعها تتوفر على مقومات الرواية، من وقائع وأبطال وصراع ومكان وجميعها تمنحها المخيلة بعديها الجمالي والأسطوري، بعيدا عن التجنيس النقدي وشروطه.
إن مادة بناء الملاحم القديمة تكاد تكون مادة بناء الرواية ذاتها، حيث الواقع وأحداثه وحاضنته المكانية وأبطاله، ومن ثم تفاعل كل ما تقدم مع المخيلة، وإذا كانت الملاحم قد استأثرت بالبطل الأسطوري، فإن الكثير من النصوص الروائية الحديثة، صارت تنحو مثل هذا المنحى، على صعيد أبطالها وأحداثها.
ولم يتوقف هذا التأثير عند الملاحم والأساطير، بل كان شديد الحضور بالمروي الشفاهي، وليس مصادفة، كون مدخل سرفانتس إلى عمله الخالد دون كيخوتيه، أن ينسبه إلى أحد الرواة العرب، وصارت العودة إلى أساليب الرواية الشعبية حالة شائعة في الأعمال الروائية المعاصرة، وبخاصة أسلوب “ألف ليلة وليلة”، فإذا كان نجيب محفوظ قد أفاد منها في نصه الروائي، فإن مثل هذا التأثير امتد إلى جغرافيات روائية أخرى، انتبه خليل قنديل إلى ذهاب الروائي البرازيلي باولو كويلو باتجاه كنز السرد الشرقي – ألف ليلة وليلة – مستفيدا من قدرتها على خدش صرامة الواقع.
ولم يختلف الأمر كثيرا في ما جاء بكتب الأديان، سواء الكتب المنزلة أم كتب الحكمة، حيث احتل المروي فيها مجالا واسعا، واعتمدت الرواية اعتمادا بينا، وهي إشارة إلى علاقة الإنسان بالمروي.
إن الرواية سواء في المرحلة التي سبقت ظهور الرواية كجنس أدبي، أم في المرحلة التي جاءت بعد ذلك، ظلت تستقطب اهتمام الناس، ولنتذكر على سبيل الأمثلة قصص أيام العرب وأبطال الملاحم الشعبية، وعشاق البادية، وغير ذلك كثير، بل نتذكر معها، كيف كانت المرأة التي تجيد قص الحكايات “السالفة” نجمة اجتماعية بمقاييس ذلك الوقت، وهذه إشارة أخرى بشأن علاقة الإنسان بالمروي.
ومنذ أن ظهرت الرواية كجنس أدبي، استقطبت اهتمام شرائح واسعة من القراء، وإذ تراجعت أرقام توزيع الكتب من الأجناس الأدبية الأخرى، فإن أرقام بعض الأعمال الروائية قد تصاعدت ويكفي أن نذكر هنا، أن فرنسا بلد الشعراء الكبار، هوغو وبودلير ورامبو، لا يتجاوز فيها توزيع ديوان شعر لشاعر مهم، أكثر من ألف نسخة، بينما توزع روائية مثل فرانسوا ساغان، الألوف من النسخ من رواياتها، وإن سوق الكتاب في الوطن العربي تميل كفته لصالح الرواية على حساب كتب الأجناس الأدبية الأخرى، وليس من قبيل المصادفة أن تكون جائزة نوبل للآداب لروائي عربي ينتمي إلى الأمة الشاعرة، هو نجيب محفوظ، ومن المعروف أن عددا من الشعراء العرب كانوا ينتظرون هذه الجائزة.
ولو رصدنا خارطة القراءة، ليس في الوطن العربي، بل في معظم البلدان الأخرى، لوجدنا أن الرواية تحتل موقعا متقدما على صعيدي النشر والتلقي، وأن قراء الرواية من كل الأجيال ومختلف المستويات الاجتماعية والثقافية.