عقل عويط شاعر في كل ما يقوله ويفعله

إذا كان من العسير أن تصبح شاعرا حقيقيا فمن المستحيل أن تصبح عقل العويط. فذلك الكائن الذي يمكنه أن يمر من غير أن يخدش الهواء بجسده الشفاف، كان قد اتخذ من الشعر مهنة روحية لن يتخلى عنها. هو الشاعر في كل وقت. ليس الشعر بالنسبة له موهبة بل هو صنيع خيالي.
يعيش العويط يومه العادي باعتباره شاعرا. كل جملة يُمكن أن تقال من أجل تمرير الوقت تتحول إلى سطر من الشعر، حين تنزلق على لسانه لتمكث في الذاكرة مثل لقية نادرة. فهو يسبق الكلام إلى لمعانه، إلى وهجه، إلى رفعته. كائن سعيد وحزين في الوقت نفسه.
سعيد لأنه شاعر وحزين للسبب نفسه. لا يمكن لأحد أن يقلده ليكون مثله حتى ولو على مستوى الأداء الجسدي. يتكلم فتظنه لم يسبق له أن قال كلماته من قبل، وتثق بأن تلك الكلمات لا تُقال لأحد سواك. هي لك وهي من أجلك يمكنك الاحتفاظ بها لأنك لن تسمعها تُقال مرة أخرى.
لا يحتاج إلى أن يكتب الشعر ليكون شاعرا. وبحكم مهنته الصحافية كتب العويط في شؤون البلد كلها سواء كانت تلك الشؤون اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو اجتماعية، غير أنه كتب بمزاج الشاعر الغاضب الذي يسبقه صدقه وترافقه نزاهته ويسكنه الكمال.
ولأنه يحمل من مادته أصواتا وروائح وصورا، فإنه كان يمارس التنقيب فيما تحلق لغته مثل الغيوم. رجل يمشي باللغة وتمشي به اللغة. يحرسها وتحرسه. يحنو عليها وتحنو عليه. وهو ما جعله لا يعبأ بمعادلة الغموض والوضوح. فهو واضح في غموضه وغامض في وضوحه. ذلك ما يجعل اشتباك شعره بالحياة اليومية أمرا ممكنا، من غير أن يلجأ إلى الوصف أو استرجاع المعاني المتاحة. تلك لعبته التي يمزج من خلالها عصف روحه بجنون الحياة.
وارث النثر اللبناني
يصغي العويط إليك بعينيه. لذلك فإنه حين يكتب يمارس نزهة بصرية، يضع من خلالها أعمال الرسامين الانطباعيين الكبار في حزمة، ويلقي بها في النار هاربا بشذرات لهيبها.
ما يبقى من الطبيعة يؤسس لعلاقة غامضة بالمرأة، التي هي واحدة من أعظم الخلاصات الإنسانية التي يبشر بها العويط مبتهجا. ومثلما يعيد الشاعر صياغة الطبيعة، فإنه يعيد صياغة المرأة الملهمة والمعبودة والآسرة والمحلقة والصادمة والزئبقية والسخية والعصية. المرأة في غنج مرآتها.
لقد تعلم أن يذهب إلى الجمال كما لو أنه يعود إلى بيته. أخونه حين أقول إنه شاعر من طراز مختلف. فهو لا يشبه إلا نفسه. الشاعر الذي يُزيد من العذاب الذي ينطوي عليه الشعر.
العويط يعيش يومه العادي باعتباره شاعرا. كل جملة يُمكن أن تقال من أجل تمرير الوقت تتحول إلى سطر من الشعر، حين تنزلق على لسانه لتمكث في الذاكرة مثل لقية نادرة
ولد عام 1952، ومارس العمل الأكاديمي حين درس الأدب الحديث والصحافة في جامعة القديس يوسف ببيروت، وعمل في صحيفة النهار رئيسا لتحرير الملحق الأسبوعي بعد أن أدار التحرير فيه منذ عام 1997.
“ماحيا غربة الماء” هو كتابه الشعري الأول والذي صدر عام 1981. بعده صدر له أكثر من عشرة كتب شعرية منها “غربة الماء”، “المتكئة على زهرة الجسد”، “لم أدع أحدا”، “مقام السروة”، “افتحي الأيام لأختفي وراءها”، وقد صدرت له في القاهرة مختارات شعرية بعنوان “سماء أخرى”.
عام 2016 حاز على جائزة المتوسط عن كتابه “السراج” الذي تُرجم إلى الفرنسية. وفي السنوات الأخيرة أصدر العويط كتبا شعرية أحدثت صدى قويا بين الأوساط المهتمة بالشعر، إما بسبب لجوئه إلى تقنيات معاصرة في الكتابة الشخصية وإما لأنها انطوت على أفكار ورؤى صادمة وصاعقة ومفاجئة. ثلاثة كتب سيطول النقاش حولها لأنها مثلت تحولا شعريا، لا بالنسبة للشاعر وحده بل للشعر العربي بشكل عام، هي “إنجيل شخصي” و”سكايبنغ” و”الرابع من آب 2020″.
عام 2003 نشر العويط في صحيفة النهار مقالا بعنوان “رسالة إلى الله” عشية الغزو الأميركي للعراق قادته إلى القضاء. يكتب مقالات في مختلف شؤون الحياة، كما يكتب عن الفنون التشكيلية بخبرة ناقد فني، وهي خبرة اكتسبها من شغفه الشخصي العميق بتلك الفنون وولعه بالجمال كما من علاقاته العميقة بكبار الفنانين اللبنانيين.
في وصف ما يكتبه العويط نثرا، يمكن القول إنه الوارث الحقيقي للمدرسة اللبنانية في الكتابة النثرية في أصفى حالاتها وأكثرها توترا واختزالا. يمكن لعقل أن يقول في أسطر قليلة ما يحاول الآخرون قوله في صفحات كثيرة. ففي تقنية قوله ما يشد وما يُدهش وما يؤنس وما يدعو إلى الاستفهام.
على حافة القيامة
يقابل العويط حنو الحياة بالقسوة الشعرية ولا يتراجع أمام قسوتها. “الشاعر العاشق” يمكن أن نصفه في كل حالاته. فالمرأة حاضرة في عالمه الفني، بل إنها العمود الفقري لذلك العالم. لا يسميها ولكنه يمشي مبتهلا في معبدها. قصائده تتشبّه بها. تتنفس مثلها وتسيل على جسدها. ولكن الأخطر في العويط يقع حين تتدفق مياه شعره كالينابيع أوتسقط كالشلالات.
لا يمكن لأحد اللحاق به وهو يركض في حقول اللغة. لا تتعلق المسألة بالخبرة الشعرية، بل بتلك العلاقة الآمنة التي نجح العويط في إقامتها بخيال الطبيعة. فهو حين يقول كلمات إنما يصنع صورا. تلك صور مبتكرة يفاجئ الطبيعة بها. إنها صور طبيعية غير أن الطبيعة هنا ليست الطبيعة نفسها. هي طبيعة مضادة يضعها الشاعر المشاكس والمتمرد على المنضدة، لكي نقارن بينها وبين الطبيعة الأصلية.
إنه لا يلعب مع اللغة بل مع الطبيعة. بالنسبة له فإن اللغة كائن هذياني مثله، أما الطبيعة فإن صمتها يحثه على استلهام جسد المرأة كما يفعل الرسامون. ليس لديه وقت ليعود إلى الوراء ليتأكد من الطريق التي قادته وهو ابن الشمال إلى بيروت باعتبارها ملاذا أخيرا. من غير قراءة قصائده، فإن علاقته بالمكان تظل غامضة. ولأن العويط شاعر أفاض في استلهام علاقته بالمكان، فإن النظر إليه لا يتم إلا من خلال البحث عن العناصر التي اكتسب عاداتها، ليتكلم كما لو أنه يمثلها بطريقة مشاغبة.
العويط يرسم حين يكتب أو أنه يكتب كما لو أنه يرسم لكنه يحفر رسومه. بكل حواسه يكتب عقل العويط كما لو أن القيامة قد حان أوانها.
أخيرا كتب كتابه
“لست شاهدا لكني أروي
فلْأرو إذا
كما لو كنت قد رأيت
فلأرو كما لو كنت أرى”
من تلك اللحظة الملحة تبدأ الرغبة في قول شيء ما. شيء سابق وشيء لاحق وما بينهما تقع الفاجعة التي لا قول فيها. تظل وحدها واقفة بكماء مثل علامة استفهام كبيرة. لحظة انفجار ميناء بيروت التي تلاها صمت طويل. صمت يخشى المرء إن تكلم أن يخدشه. صمت العبادة في انتظار جواب السماء. يكتب العويط في “الرابع من آب 2020” كأنه يسجل ويوثق “الثلاثاء الرابع من آب الساعة السادسة وسبع دقائق”، غير أنه توثيق ينفجر بنفسه ويفجر اللغة وما حولها كما حدث في الميناء تماما.
تدخل الحواس كلها في ذلك النوع من الكتابة التي تمتزج فيها الأشياء، فيمكن أن يقال إن الشاعر يكتب من داخل تلك الفوضى، لا ليصف بل ليملأ ثغرات في الكلام الذي لن يستوي بعد اليوم. المفردات لن تعود إلى سطورها كما بيروت التي فارقت هدنتها إلى الأبد. ذلك كتاب لم يُكتب. كتاب لا يُكتب. يرى المرء من خلاله رمادا ويشم رائحة جثث وتهبط الكوابيس باعتبارها صورا ممزقة. الكلمات فيه تُلمس والفراغ يمكن تذوقه. إنه كتاب الحواس وما بعدها. مع “الرابع من آب 2020” كتب عقل العويط كتابه وهو كتاب بيروت.
من القصيدة ـــ الكتاب "الرابع من آب 2020"
كيف نصفي
ثأرنا مع هذا الليل؟
ليس ممتعا ولا مناسبا
توقيت هذا الرثاء
أيصح أن يرثى
مكان
ما لم يلتئم بأشلائه؟
خذوني إليه
خذوني إليه
لتبيت حياتي
على رخامه الضرير
أو جيئوا به
إلي ليستلقي هو
فوق يبابي الكسير
مَن أنت مَن أنت؟
مجتهدا للحاق بالهواء المتخثر
راكضا وراء الغبار البطيء
فاتحا يديك
لالتقاط ما تبقى من حشرجات الفراغ.