عقد التاريخ لا تصلح كبوصلة لعلاقات جنوب أفريقيا أو الجزائر مع العالم

ميّزت دولتان أفريقيتان مواقفهما المزايدة من قضيتي الاستعمار أو العنصرية بشكل لافت. العالم يسير بخطى متسارعة نحو إرساء قواعد التقدم والمضي قدما للوصول إلى صيغة تجعل الدول مواكبة للتغيرات الكبرى التي يشهدها العالم. لكن بوصلة السياسة لدولة مثل الجزائر أو جنوب أفريقيا شوشت على اتجاه ومستوى حركة مثل هاتين الدولتين اللتين تتمتعان بوفرة الموارد الطبيعية والبشرية التي تحسدان عليها.
لا نعرف إن كانت المصادفة وحدها ما جعل خبر عودة سفير جنوب أفريقيا في الولايات المتحدة إبراهيم رسول إلى بلاده بعد أن أعلنته واشنطن شخصا غير مرغوب فيه، يتزامن مع اللقاء السنوي للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون مع وسائل الإعلام المحلية، أم أن كثرة المرات التي يتطرق فيها الرئيس تبون إلى موضوع الاستعمار والعلاقة الشائكة بفرنسا تجعل هذه الصدفة واقع حال لا بد أن يقع ويحدث. عاد السفير رسول دون أن يشعر بأي ندم على حد وصفه، وهو موقف شائك دبلوماسيا وفق أية معايير. فاستبعاد السفراء عادة ما يتم بعد تراشق سياسي بين الدولتين المعنيتين من دون حضور العامل الشخصي. لكن السفير رسول غيّر القاعدة واستعاد الاستثناء وأدت طريقته في العمل الدبلوماسي إلى احتكاك نادر الحدوث.
لا أحد بالطبع يقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب “المكروه” و”العنصري” من قبل رسول هو ملاك. ثمة الكثير مما يقال بحق ترامب، ولكنه يجب أن يكون حبيس صدور الدبلوماسيين ولا يصدر اعتباطا. لم يمض ترامب الكثير من الوقت في منصبه الذي عاد إليه كي يتراكم ما يكفي من المسببات والمعطيات التي تجعل منه مكروها أو عنصريا. غير أن مزاج التعامل العام بين دولة “معقدة” عنصريا مثل جنوب أفريقيا ودولة منفتحة على كل شيء مثل الولايات المتحدة، يجعل من الوارد الاختلاف، ولكن من دون الوصول إلى مستوى طرد سفير لأسباب “عنصرية” في توقيت أقل ما يقال عنه إنه غير مناسب لاعتبارات كثيرة.
◄ في حال نظر تبون وشاهد كل شيء من ثقب باب بين البلدين، فلا شك أن الأزمة ستبدو مستعصية. وإذا أضفنا التشويش التقليدي بالحديث عن التركة الاستعمارية، فإن من الصعب العثور على الحل
الجو العنصري الذي تحاول دولة مثل جنوب أفريقيا الإتيان به كمبرر للحادثة الدبلوماسية الاستثنائية عالميا (أي طرد السفير)، هو جو صناعة السياسيين وموظفي الخارجية في جنوب أفريقيا، بل وأكثر من هذا هو جو صناعة المزاج الشعبي ليصبح جزءا من “الثقافة الشعبية” التي ورثتها جنوب أفريقيا من حقبة زمنية عنصرية بحق، لكنّ مؤسسيْ جنوب أفريقيا، الرئيس المناضل الأسود نيلسون مانديلا ونائبه الأبيض فريديريك دي كليرك (الرئيس السابق الذي تنازل عن الكرسي ليفسح المجال لعهد ما بعد التمييز العنصري)، لم يكن في حسابيهما أن يعاد تأسيس الدولة بعقلية العقدة العنصرية وأن تصبح لازمة في التفكير المرضي وأن تستدعى هذه العقدة في كل صغيرة وكبيرة.
في مثل هذا الجو المسموم بالمفردات العنصرية، يصبح من الوارد أن يفكر عشرات الآلاف من مواطني جنوب أفريقيا البيض من أصول أوروبية في التقدم بطلبات الهجرة إلى الولايات المتحدة. هذه خسارة كبيرة في الموارد البشرية والمعارف لا يريد أي بلد أن يضحي بها من مواطنيه، خصوصا إذا عرفنا أن الأقلية البيضاء كانت إلى حد وقت قريب من أعمدة الاقتصاد الوطني والصناعة وجزءا كبيرا مما تحقق ويحسب لجنوب أفريقيا. معادلة مانديلا – دي كليرك كانت وصفة للبقاء وليست للرحيل أو الطرد؛ أي بقاء البيض من أصول أوروبية ليستكملوا تاريخا معقدا تمكن الحكيم مانديلا من تحويله إلى صفحة بيضاء في سجل البشرية الحافل بالمشاهد والصور العنصرية.
ما يجعل طرد السفير رسول ومن رغبة عشرات الآلاف من البيض في الرحيل إلى الولايات المتحدة قضية حساسة هو أن ما سيحدث سيكون مقدمة لنهج عنصري آخر ووارد. فجنوب أفريقيا ملتقى لأعراق كثيرة، منها خلفية إبراهيم رسول الاثنية، فهو مسلم من أصول إنجليزية – إندونيسية – هولندية – هندية. ويستطيع الكثير من مواطني جنوب أفريقيا أن يعدوا أصولا إثنية متعددة في أعراقهم. لكن يبقى السود هم الأغلبية كعدد، وهو مؤشر خطر إذا انقلبوا على شركائهم في الحكم الآن من أفراد وأعراق من غير البيض أو انقلبوا على قوانين ما بعد الفصل العنصري.
في مثل هذا الجو المسموم يتم الحديث عن العنصرية وتوجيه الاتهامات على أساسها، بينما يجد الرئيس تبون متسعا من الوقت لاستدعاء عهد الاستعمار الفرنسي في بلد أفريقي آخر يعاني من مشكلات من نوع مختلف. فالجزائر التي يستدعيها تبون دائما في كلماته وخطبه وجدله السياسي هي الجزائر الضحية للاستعمار الفرنسي وليست أيّ جزائر أخرى تجاوزت عصر الاستعمار وبدأت تحث الخطى نحو بناء سياسي واقتصادي أسوة بالدول الأخرى، خصوصا تلك التي تتشارك معها شمالا في حوض المتوسط أو جنوبا برمال الساحل والصحراء. الاستعمار الفرنسي للجزائر لازمة يتم استدعاؤها للتأكد من أن الأجواء السياسية بين فرنسا والجزائر تستكمل سموميتها لتصبح في إطار الأزمات الواجب حلها بمزيد من التصعيد والإنذارات.
لا بد من الإشارة إلى أن الجزائر استعجلت الأزمات مع أكثر من بلد. لسبب ما، فهم الرئيس تبون أن مهمته كرئيس تستلزم التأزم الدبلوماسي مع شركاء اقتصاديين وسياسيين في أوروبا وأفريقيا. فمنذ وصوله إلى الحكم، بعد أزمة حكم لرئيس مريض ومقعد، كانت الأزمات الدبلوماسية تتعاقب من دون تفسير منطقي لمبرراتها، اللهم إلا ما له علاقة تشنج استباقية في كل ما يمكن أن يمس العلاقة أو الموقف من بوليساريو. وبقي عصيّا على الفهم، حتى بمقاييس الدبلوماسية المعقدة لبلد مثل الجزائر، لماذا مثلا تتصادم الجزائر مع كتلة جغرافية كاملة في منطقة الساحل، أو لماذا يتحول موقف إسباني سياسي أو دبلوماسي يدخل في صميم القرارات السيادية مثل الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، ليتحول إلى أزمة وقطيعة وضرب للمصالح الاقتصادية للجزائر نفسها قبل غيرها. هذه الوصاية التي تمارسها الجزائر على قضية الصحراء تثير التساؤلات لأنها لا تنسجم مع أي مصلحة وطنية جزائرية، ويجد المراقب أن المبررات قد تتضاءل وتصغر لتصبح قضية مصالح شخصية لثلة من الضباط المستفيدين من بقاء الأزمة منذ السبعينات حتى يومنا هذا.
◄ استبعاد السفراء عادة ما يتم بعد تراشق سياسي بين الدولتين المعنيتين من دون حضور العامل الشخصي. لكن السفير رسول غيّر القاعدة واستعاد الاستثناء وأدت طريقته في العمل الدبلوماسي إلى احتكاك نادر الحدوث
الأزمات هي ما يستدعيه الرئيس وضباطه وليس الحلول. يقول تبون إنه أوكل مهمة حل المشكلة إلى اليد القادرة والمتمكنة لوزير الخارجية أحمد عطاف، وإنه في الوقت ذاته أسند لنفسه وللرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة الحل باعتباره المرجع الوحيد. الرئيس وضع تخطيطا أوليا للأزمة المتصاعدة واستبعد منها من استبعد، ودفع الملف بتكليف من عنده إلى وزير خارجيته، أما البقية فعند ماكرون. شيء مربك لأن هذا هو نفسه ماكرون الذي تسبب في الأزمة وأوصلها إلى ما هي عليه.
في حال نظر تبون وشاهد كل شيء من ثقب باب بين البلدين، فلا شك أن الأزمة ستبدو مستعصية. وإذا أضفنا التشويش التقليدي بالحديث عن التركة الاستعمارية، فإن من الصعب العثور على الحل، وسنعود إلى استدعاء دبلوماسيين أكثر حنكة من أحمد عطاف وسياسيين من الجانب الفرنسي أقل يمينية وأكثر اعترافا بما صار يعرف بالعقدة الجزائرية من قضية الاستعمار والعجز عن تجاوزها. أو بصيغة قد تكون أسهل وأكثر تأثيرا، بأن ننتظر عهدة رئاسية جديدة لرئيس فرنسي جديد يعلن في بيان توليه الرئاسة باعترافه مقدما بما فعلته الأمة الفرنسية بالأمة الجزائرية. وإذا كنا قد تعلمنا درسا من تاريخ ما بعد استقلال الجزائر، فإن شيئا من هذا لن يحدث، وستعود الجزائر إلى حيث بدأت ولن نخرج من دوامة الاتهامات والاتهامات المقابلة.
هذا النمط في الانغلاق على أفكار، مهما كانت أحقيتها ومشروعيتها، يجعل من الصعب على جنوب أفريقيا أو الجزائر أن تذهبا بعيدا في حياة شعبيهما وستكونان ضحيتين لعملية مراوحة سياسية ودبلوماسية بلا نتيجة. الشعوب تتقدم عندما تتجاوز عقدها، بدلا من نصب محاكم عند كل مرحلة توقّف في العلاقة مع العقل العنصري الذي سيّر بلدا مثل جنوب أفريقيا أو العلاقة مع عقلية الجنرال المستعمر الذي لا شك أنه ارتكب ما يندى له الجبين من انتهاكات كما حدث في الجزائر.
قريبا تصبح الأغلبية الديموغرافية في جنوب أفريقيا لأناس ولدوا بعد نهاية حقبة الفصل العنصري. ولست متأكدا من نسبة الجزائريين ممن يتذكرون الجنود الفرنسيين الذين كانوا يتجولون في أحياء المدن الجزائرية أو القصبات والقرى. هنا يصبح من الضروري التخلص من عقد التاريخ وعدم الاستمرار في جعلها البوصلة الوحيدة التي تقاس على أساسها العلاقات.