عقد أخلاقي للإنترنت

ثمة تشابه بين الإنترنت والإمبراطورية الإسلامية. بدأ العباسيون، وقبلهم الأمويون، أقوياء وموحدين وبسطوا سلطتهم على أرجاء الإمبراطورية الإسلامية. في مركز الخلافة في دمشق أو بغداد، كانت الأساسيات تقرر من على حدود الصين في أقصى الشرق وصولا إلى شمال أفريقيا في أقصى الغرب. العصر الأموي والعصر العباسي الأول كانا مركزيين تماما، وكان الولاة طوع بنان أمير المؤمنين.
ثم بدأت مركزية الحكم في التخلخل. تحولت الإمبراطورية إلى جزر للولاة أولا ثم للحكام والملوك والسلاطين. في ما بين ممالكهم وسلطناتهم كانت أراضي تسود فيها الفوضى ويحكمها أمراء حرب وقطاع طرق. في قصر الخلافة في بغداد كان المشهد جميلا ومتألقا، لكن كلما ابتعدت عن المركز، كلما اختلف الوضع.
اللامركزية ليست كلها مساوئ كما يحاول البعض أن يوحي بوجودها. ابتداء من إمارة الأندلس الأموية المستقلة، مرورا بحكم أحمد بن طولون في القاهرة، وصولا إلى سلطنات الشرق في آسيا، عم ازدهار وفكر ومعرفة استثنائية هي محطات مضيئة في التاريخ الإسلامي. حتى تلك الممالك والدول التي عادت وانقسمت على نفسها، كمشهد “ملوك الطوائف” في الأندلس، أنتجت علوما وثقافة وعمارة استثنائية لا تزال قادرة على أن تذهل الزائر والقارئ والمستمع. الدعاء للخليفة في بغداد أو في القاهرة أو في قرطبة كان خيط الوحدة النظرية في عالم مزدحم بالممالك والسلطنات المتنافسة.
حال الدولة العربية الإسلامية آل إلى الكوارث عندما انهارت سلطة المركز وسلطات الأطراف معا. انهيار “العقد الإمبراطوري” قاد إلى انهيار “العقد الأمني” وبالتالي انهيار “العقد الاجتماعي”. ما عادت الأركان المتلألئة في قصر الخليفة العباسي في بغداد تكفي لإخفاء حقيقة أن المغول على الأبواب. تغيرات أخذت قرونا، لكنها أوصلت الإمبراطورية الإسلامية إلى حال مزر تماما. وبقية القصة معروفة.
لا نحتاج إلى قرون لمعرفة ما يمكن أن تؤول إليه حالة إمبراطورية الإنترنت. لقد شهدنا ولادتها التجارية (بعد أن كانت شأنا عسكريا خاصا) وصعودها لتصبح أم التقنيات والثقافة والاقتصاد والمعرفة. كل هذا تم في أقل من 30 عاما. لكننا شهدنا أيضا تشرذمها وانتشار القراصنة والكذابين والإرهابيين في أرجائها. “ممالك الطوائف” على الإنترنت التي ولدت مع تصدع مركزية الإنترنت وبروز التطبيقات المختلفة والشركات المبتكرة، بل صعود ما يسمى بالإنترنت 2.0، أي الشبكات التفاعلية أو الشبكات الاجتماعية، كانت فصلا لا يقل إثارة عن ولادة الإنترنت نفسها. الغزاة من الدول والهاكرز تمكنوا اليوم من ترويع مركزية الإنترنت أولا، وهم الآن يتسللون إلى “ممالك الطوائف” للشبكات الاجتماعية ويغيرون من طبيعتها ويحولونها إلى منصات أحقاد وأخبار مزيفة وتطرف وتبشير ديني وطائفي غريزي، بدلا من أن تكون تلك المنصات شيئا تفخر به الإنسانية.
الاختناق الذي يعانيه “العقد الأخلاقي” للإنترنت وللشبكات الاجتماعية، بحاجة إلى من يحرره من الأيدي التي أمعنت في استغلاله. هنا تبرز الحاجة إلى عقد أخلاقي كوني (أو ماغنا كارتا للإنترنت على حد وصف تيم بيرنرز-لي مبتكر الويب بالأمس في مؤتمر الإنترنت العالمي في لشبونة). لا أحد يريد أن يرى مغولا جددا وهم يدمرون عاصمة الإنترنت أو عواصم ممالك الطوائف للشبكات الاجتماعية.