عفيف آغا نحات سوري يتحدى صمت الحجر

الفنان السوري يمزج الواقعي بالتجريدي مشكّلا بالرخام وطنا بديلا، وأعماله تجسّد انكسارات الإنسان وقيوده وتسعى إلى خلاص البشرية.
الأربعاء 2020/02/12
عودة فينيق أوغاريت في شكل جديد

تبدو جدلية العلاقة بين الفنان السوري عفيف آغا ومنحوتاته قائمة على مفهوم خاص يؤسّس له وفق تحد يفترض وجوده، فهو يرى أن المادة الخام بين يديه إنما هي تكوينات تتشكّل عبر ما يقوم به من تغييرات تمنحها شكلا آخر يضفي عليها سمة البقاء والخلود.

دمشق – عفيف آغا نحات سوري، ابن مدينة أوغاريت التي أكتشفت فيها أول أبجدية في التاريخ، كما وجدت فيها لقى أثرية في النحت قرأنا من خلالها حضارة المنطقة التي زاد عمرها عن آلاف السنين.

وعلاقة آغا بفن النحت متجذّرة وقديمة، وهو الذي ينحت على الحجر منذ أن كان طفلا من خلال تكوينات حجرية كان يصنع بعضها بأحجام صغيرة جدا لا تتجاوز السنتميترات. ومنها أقام معرضه الأول عام 1993 ليبدأ مسيرة حياته المهنية وصولا للمعرض الرابع عشر “كاسرات” المقام حاليا في صالة “عشتار” بالعاصمة السورية دمشق.

ويشير آغا في حديثه لـ”العرب” إلى مسقط رأسه في مدينة أوغاريت وعلاقتها بالفينيقيين الذين كان لهم باع طويل في فن النحت، مؤكدا أن أعماله هي امتداد لهؤلاء الأجداد.

تستعرض صالة “عشتار” الدمشقية ما يقارب الأربعين منحوتة قدّم فيها آغا عصارة ما نحته خلال سنوات عمره الفني، بدءا من بعض ما تبقى من معرضه الأول الذي أقامه منذ ثلاثين عاما.

عفيف آغا: ما يدور في العالم قاس ووحشي، لكننا بالإبداع ننجو
عفيف آغا: ما يدور في العالم قاس ووحشي، لكننا بالإبداع ننجو

ويوضح آغا لـ”العرب” أن هذا المعرض حصيلة سلسلة من التجارب والأعمال التي لها علاقة بالذات، حيث تغوص في دواخل الإنسان وعلاقته بالطبيعة والعناصر الصامتة فيها، كما يؤكّد أن هذه الأعمال “تجسد انكسارات الإنسان وقيوده وتسعى إلى خلاص البشرية”.

وعن سبب تسمية المعرض بـ”كاسرات”، يجيب عفيف آغا “العرب”، “الكاسرات هنّ مصاعب الحياة التي تواجه الناس في معيشهم اليومي، وهي مفروضة عليهم يواجهونها مهما حاولوا الابتعاد عنها، إنها القدر الذي يحيط بهم. والشقيّ من يستسلم لها، والناجي هو من يستجمع قواه للخروج من هذه المصاعب، فالحرائق والمتاعب لا يمكن أن تنهي حياة الناس لو عرفوا الخروج منها، وهو ما يأتي بالأمل والعمل. لذلك كتبت في ملصق المعرض: نحيا بالأمل رغم الاحتراق. أحاول من خلال هذا المعرض التأكيد على فكرة المقاومة والعزيمة التي يجب أن يتمتع بها الناس للحفاظ على إنسانيتهم، فما يدور في العالم الآن قاس ووحشي لكننا بالفعل الإنساني والإبداع ننجو”.

تعامل الفنان عفيف آغا مع أكثر من مادة خام، فتارة تكون المادة الحجر وأخرى الخشب وثالثة الرخام، عن كيفية تعامله مع أنواع المواد الخام وتفضيله نوعا محددا، يجيب “تعنيني الفكرة أولا وأخيرا، لكل مادة شرطيتها، وفي النهاية أطوعها وأشكلها كما أريد، يمكنني النحت على أي مادة، حتى البرونز وما هو أقسى منه، هناك حجر أسود آتي به من البحر. وهو نتاج البراكين البحرية يحمل قساوة هائلة تفوق المعدن، أصنع منه أعمالا تحمل دلالات خاصة كما أنحت أعمالا من الخشب الذي هو مطواع أكثر ويحمل دلالات تخصه. المادة ليست عصية على النحات المبدع، ويمكنه اعتصار المعاني منها وقولبتها في العديد من التشكيلات التي تجسد المعنى والفكرة التي يروم الوصول إليها”.

بارقة أمل
بارقة أمل

تجلت في أعمال آغا رؤى مختلفة تجمعت فيها العديد من المدارس الفنية، ربما أبرزها تلك التي تمزج بين التجسيد والتجريد، أو الواقعي بالتجريدي، كالمنحوتة التي تمثل جسما يحاصر بصر المتلقي في انسياق نحو مركز العمل، كما لو أنه مخروط، يركز البصر واهتمامه في نقطة محددة، ثم لا تلبث أن تكون النهاية في ثقب يخرج منه النظر نحو فضاء أبعد. وكأنما أراد الفنان إيصال فكرة أن الانغلاق على الظروف والمصاعب خطأ، لأن النجاة والخروج منها كامنان في النهاية من خلال مخرج ما. كذلك وجدت العديد من المنحوتات التي تجسد معاني الإنسان في أعمق تجلياته وآلامه وآماله في الحياة.

تسأل “العرب” الفنان السوري عفيف آغا عن طبيعة فن النحت، كما يراه، وعن دوره في رواية الحضارة، فيقول “فن النحت هو جسر التواصل بين الناس عبر آلاف السنين، فهو الفن الذي استعان به الناس منذ آلاف السنين لكي يكتبوا ويدوّنوا بعض تفاصيل حياتهم والتي وصلتنا عبر الآثار واللقى، ومنها عرفنا بعض ثوابت الحضارة ونصوصها القديمة”.

ويضيف “فن النحت كان سجّل الحضارات القديمة التي وصلتنا، وهو الفن الأبقى لأنه يحافظ على مكنوناته وجوهره كما هو سواء حُفظ على وجه الأرض أم في باطنها، وكونه قاسي التكوين، فإنه يحتفظ بكيانه شبه كامل رغم مضي آلاف السنين. فن النحت هو ماضي التاريخ الإنساني وسيبقى دائما منبرا تاريخيا وحضاريا هامّا يستخدمه البشر في رواية سطور حضاراتهم عبر الأجيال”.

تكوين على تكوين
تكوين على تكوين

وللفنان السوري رؤية خاصة في الحوار مع منحوتاته وكيفية استخلاص مكامن الحياة منها، فهو يرى أن المادة الخام التي تكون بين يديه تنشأ حوارا معه، وهو يريد أن يغير من ملامحها لكي تكون مشكّلة بفكرة واضحة يريد إيصالها للناس.

ويقول “من هنا فإنني أنظر للنحت على أنه تكوين على تكوين، فهو يخرج بمادة مختلفة عن الأصل بحيث تعطي للمادة حياة جديدة وصخبا جديدا يبتعد بها عن الهدوء والصمت، بالنحت نحرّض المادة على أن تعيش مزيدا من الوقت ضمن شكلانية جديدة، لذلك أعتبر فن النحت طريقا إلى البقاء الطويل وجسرا للتواصل بين الناس”.

وعفيف آغا، عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، قدّم العديد من المعارض داخل سوريا وخارجها منها “دراسات تشكيلية”، “أعراس للحرية”، “منمنمات وروح الأسطورة”، “الحركة والفراغ” و”نبض الصمت”، كما أقام معرضا في أوكرانيا بعنوان “فينيق الداخل” ثم بدمشق بالعنوان ذاته. وقد أنشأ في العام 2014 صالة عرض خاصة به أطلق عليها اسم “كوارتز” صارت متحفا فنيا دائما له.

16