عصر "الحواس الذكية" يغيّر رؤية المعاقين للحياة

توقع الملياردير الأميركي بيل غيتس قبل عشر سنوات نهاية مبكرة للوحة المفاتيح و”الفأرة” وتعويضهما بأدوات أكثر طبيعية وعفوية تعتمد على الحواس، خاصة اللمس والرؤية. لكن يبدو أن عصر “الحواس الرقمية”، الذي تنبّأ به غيتس في الماضي بات أكثر واقعية في العصر الحالي، والأمر لم يقتصر على كيفية التعامل مع جهاز الكمبيوتر فحسب، بل إن قدرا كبيرا وملموسا أصبح لدى الإنسان من أدوات الذكاء الاصطناعي، التي منحت أيضا ذوي الإعاقة “حواسا بديلة” عن حواسهم المفقودة، مكنتهم من الشعور بوجودهم في المجتمع، وغيرت نظرتهم للحياة.
يعاني الكثير من الأشخاص حول العالم من إعاقات مختلفة تعيقهم عن ممارسة الكثير من الأنشطة، ويبقى هناك أمل يكمن في “الحواس الذكية” التي يمكنها أن تساعد المستفيدين منها من استعادة، ولو جزئيا، البعض من حواسهم المفقودة. وتساعد أدوات الذكاء الاصطناعي هذه في شعور ذوي الإعاقة بوجودهم في المجتمع كما تغيّر من نظرتهم للحياة.
وعلى مدار التاريخ، كانت بدائل الأطراف المقطوعة بدائية، وتصنع من الحديد أو الخشب لتكون بديلا شكليا.والمصريون القدامى أول من برع في ابتكار أطراف خشبية مناسبة في الحجم ومريحة في الاستخدام.
لكن العصر الحالي بدأ يعجّ بالأعضاء الاصطناعية الذكية التي يتم استخدامها كبديل للأعضاء المبتورة أو المفقودة، بدءا من الأيدي التي تمكن من الشعور بملمس الأشياء، وصولا إلى القفازات الناطقة والأذرع التي تقرأ الأفكار، وانتهاء بمنظومة عصبية صناعية يمكنها استشعار المؤثرات الخارجية والتعرف على الحروف عن طريق نظام بريل للقراءة الخاص بالمكفوفين.
ويسعى فريق من الخبراء من جامعتي ستانفورد الأميركية وسيول في كوريا الجنوبية إلى تطوير جلد صناعي من أجل الأطراف الصناعية، بغرض إعادة حاسة اللمس لأصحاب الأطراف المبتورة.
وأكدت الباحثة زينان باو، أستاذة الهندسة الكيميائية وأحد المشاركين في الدراسة، أن نظام الاستشعار العصبي الصناعي هو خطوة نحو صناعة شبكة خلايا عصبية تشبه الجلد، من أجل استخدامها في التطبيقات المختلفة.
ويتعلق المشروع بتطوير دائرة كهربائية عصبية صناعية يمكن تثبيتها مستقبلا في خامة الجلد التي تكسو الأطراف الصناعية والروبوتات الرخوة.
وتعتمد هذه المنظومة على ثلاثة مكونات رئيسية، أولها وحدة استشعار لمس يمكنها رصد أقل المؤثرات الخارجية، وإرسال إشارة إلى المكون الثاني، وهو خلية عصبية إلكترونية مرنة، أما المكون الثالث فهو وحدة ترانزيستور تمت صناعتها على غرار نقاط التشابك العصبي البشرية.
وقال الباحث تاي وو لي من جامعة سيول في تصريحه للموقع الإلكتروني “تيك إكسبلور” المتخصص في التكنولوجيا، إن “نقاط التشابك العصبي يمكنها توصيل الإشارات وكذلك تخزين البيانات من أجل اتخاذ القرارات البسيطة”، مرجحا أن الدائرة الكهربائية الخاصة بالنظام العصبي الصناعي يمكنها أداء هذه المهام.
وقام الباحثون بتجربة المنظومة الجديدة، عن طريق تثبيت النظام العصبي الصناعي في رجل صرصار، موجهين ضغطات بسيطة لوحدة استشعار اللمس في المنظومة. ونجحت الخلية العصبية الصناعية في تحويل الإشارة الحسية إلى إشارة رقمية وتوصيلها إلى وحدة الترانزيستور، ما جعل رجل الصرصار ترتجف حسب قوة الضغطة التي أطلقها الباحثون. كما أثبتت التجارب إمكانية استخدام منظومة اللمس الجديدة في التفريق بين حروف نظام بريل للقراءة الخاص بالمكفوفين.
وفي السنوات القليلة الماضية تمكن علماء من المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا وكلية سانتا انا للدراسات المتقدمة في إيطاليا من تحقيق انتصار علمي كبير أتاح للأشخاص الذين بترت أصابعهم، الفرصة لاستعادة حاسة اللمس والشعور بنعومة الأسطح أو خشونتها من خلال أقطاب كهربائية مزروعة في أعصاب العضد.
ودينيس آبو سورنسن هو أول شخص يستعيد إحساسه بملمس الأشياء مستخدما أطراف أصابعه المتصلة بأقطاب كهربائية تمت زراعتها في أعلى الجزء المبتور.
وقال العلماء إن سورنسن، الذي كان معصوب العينين خلال الاختبارات، استطاع التمييز بين الأسطح الملساء والخشنة في 96 بالمئة من الحالات.
ومن جهة أخرى، حقق فريق أبحاث من جامعة ملبورن الأسترالية اختراقا مستقلا في التحكم بعمل العمود الفقري للأشخاص المصابين بخلل فيه، عن طريق أداة اصطناعية يمكنها بالإضافة إلى ذلك تحريك أعضاء الجسم الاصطناعية.
وفي الماضي كان الاتصال الفعال بين الأعضاء الصناعية والجسم حلقة مفقودة في التنفيذ العملي للتحكم العصبي وردود الفعل الحسية، إلا أن هذه الحلقة أصبحت الآن موجودة. وتعتمد هذه التقنية 39 على تركيب دعامة طولها ثلاثة سنتيمترات تغطي قشرة المخ وتتحكم في حركة العمود الفقري.
العصر الحالي يعج بالأعضاء الاصطناعية، ومنها الأيدي التي توفر الشعور بالملمس والقفازات الناطقة والأذرع التي تقرأ الأفكار
وتحتوي الدعامة الاصطناعية على 12 قطبا كهربائيا تُزرع عبر حقنها في الوريد عند منطقة العنق ثم ترفع إلى قشرة الدماغ وفتح شبكتها هناك، لتجنب تدخل جراحي في الدماغ قد يقود إلى مضاعفات طبية.
ويأمل العلماء في أن يتيح لهم التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي تطوير وسائل قد تعوض الأشخاص الذين يعانون من ضعف في البصر أو يفتقدونه -ولو جزئيا- عما حرموا منه. ورغم ما أحرزه الطب من قفزات خلال العقود الماضية، إلا أن حوالي 36 مليون شخص حول العالم يفتقدون لنعمة البصر حاليا. وخلص الباحثون إلى أن عدد المكفوفين لكل مجموعة سكانية في 188 بلدا انخفض من 0.75 بالمئة عام 1990 إلى 0.48 بالمئة في 2015، فيما انخفض معدل الإعاقة البصرية المعتدلة إلى الشديدة من 3.83 بالمئة إلى 2.9 بالمئة. وقال روبرت بورن، من جامعة أنجليا روسكين، أن هذا الأمر يكاد يكون مؤكدا بسبب تحسن التدخلات الصحية مثل جراحة “المياه الزرقاء”.
وهناك خطوات مهمة قطعها الأطباء وخبراء التكنولوجيا في طريق التوصل إلى علاجات جديدة للمرضى الذين يعانون من أمراض في العين، وتمكنوا من جعل حلم الإبصار لدى الآلاف من المكفوفين حقيقة.
ومؤخرا أجازت إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية نوعا جديدا من أنواع العدسات الطبيّة اللاصقة التي تتم زراعتها في العين بصورة دائمة وتهدف إلى تصحيح نظر الأشخاص المصابين بقصر النظر.
وتسهم العدسات الجديدة في علاج قصر النظر، وستقدم لمستخدميها بديلا عن النظارات الطبية أو العدسات اللاصقة المؤقتة أو الجراحة عن طريق أشعة الليزر.
ورغم أن الاختراع لا يزال في مراحله الأولى، إلا أنه من المتوقع أن ينهي المعاناة من قصر النظر التي تنتشر بشكل وبائي في العالم، فنسبة من يحتاجون لارتداء نظارات في أوروبا والولايات المتحدة تتراوح ما بين 30 و40 بالمئة من مجموع السكان، وهي نسبة ترتفع إلى نحو 90 بالمئة في البعض من الدول الآسيوية.
وهناك تجارب بريطانية رائدة تلخصها “العين الإلكترونية” القادرة على إعادة البصر للمكفوفين، وسوف تتم إتاحتها مستقبلا في القطاعات الصحية بالمملكة المتحدة. وأشار العلماء إلى أن هذا الابتكار يعمل من خلال نقل صور الفيديو التي يتم التقاطها بواسطة كاميرا في نظارات خاصة إلى نبضات كهربائية يمكن قراءتها من قبل الدماغ.
ويتم إرسال إشارات إلكترونية لاسلكيا إلى أقطاب توضع على الخلايا التالفة في الجزء الخلفي من شبكية العين، وهذه النبضات تحفز الخلايا المتبقية في الشبكية.
وأشار العلماء إلى أن “العين الإلكترونية” الحديثة ستساعد المكفوفين على الرؤية حتى يصبحوا قادرين على تفسير الأشكال أو الأشياء، وفي الحالات الأكثر نجاحا سيكونون قادرين على قراءة الرسائل النصية.
وقال العلماء “إن العين الإلكترونية الحديثة تصلح للمرضى الذين يعانون من التهاب الشبكية الصباغي الذي يعرف بأنه مرض غير قابل للشفاء، والذي يجعل الشبكية الموجودة في الجزء الخلفي من العين تتوقف عن العمل”.
ويعج العالم أيضا بالملايين من الأشخاص الذين يفتقدون للإحساس بالروائح بسبب فقدانهم لحاسة الشم التي لعبت قبل قرون من الزمن دورا حاسما في تطور الإنسان، حيث ساعدته في العصر الحجري على الصيد وتفادي المأكولات السامة، ومازالت هذه الحاسة تلعب دورا هاما في مجالات مختلفة من حياة الإنسان.
ويستطيع الأنف البشري تمييز تريليون رائحة مختلفة، متفوقا على العين والأذن في ما يتعلق بقدرته على التمييز بين المثيرات الحسية المختلفة، إلا أن هذه الخاصية لا يتمتع بها حوالي 5 بالمئة من سكان العالم، حيث يولد البعض حاملا هذه الإعاقة بينما يصاب البعض الآخر بها كمضاعفات لأمراض أخرى. وقد وجد فريق من الخبراء، أن حاسة الشم عند الإنسان تعتمد على وصول عيّنة من الهواء إلى المنتفخ الشمي عند قمة الأنف وهو ما يتطلب استنشاقا ودفقة هوائية قوية لإيصال الهواء. غير أن هندسة الأنف المعقدة لم تعق الأبحاث العلمية التي تعد الذين ولدوا من دون حاسة شمّ بالاستمتاع كما غيرهم من البشر العاديين بالروائح والتمتع بهذه النعمة الرائعة.
وأصبحت الأنوف الإلكترونية من التقنيات الحديثة التي يعتمد عليها الخبراء في مجالات مختلفة، وخاصة في عمليات تشخيص الأمراض والكشف عن المتفجرات، لكن من الممكن أن يستفيد حتى البشر من هذا الاختراع في المستقبل القريب.
يبدو أن الكثير من “الحواس الإلكترونية” لا تزال في مهدها ومن الصعب أن نعرف أي اتجاه ستتخذه في المستقبل. لكن لأن التقدم التقني يُطبق على نطاق واسع وباستمرار في العديد من الاستخدامات والمجالات، ويهدف إلى حل الكثير من المشكلات، فما هو مؤكد حاليا أن العلاقة التعاونية بين التكنولوجيا والبشر سوف يستفيد منها الجميع ولو بشكل جزئي بالنسبة للبعض.