"عراقيون في المدينة".. أبناء الرافدين يعرضون إبداعاتهم في تونس

أسبوع فني يعرض لوحات ومنحوتات لفنانين عراقيين.
الخميس 2023/03/16
أعمال تبوح بأسرار فنانين من العراق

لم يسعفنا الحظ بعد للسفر إلى العراق والاطلاع على تجارب فنية مختلفة، عن قرب، لكنه أسعفنا لتأتينا، في تونس، مجموعة من الفنانين العراقيين يحملون لوحاتهم التشكيلية ومنحوتاتهم، وأيضا تاريخ بلادهم وحكايات أهلهم وخصوصية حاضرهم الاجتماعي والثقافي، وتنوع تجاربهم الفنية التي قد تلتقي وتتنافر مع تجارب أمثالهم من الفنانين التونسيين.

للفن التشكيلي العراقي جماليته الخاصة النابعة من تاريخ البلد، التاريخ المثقل بآثار الماضي الثري والإرث الحضاري الذي تشهد بعظمته كل الدول العربية المجاورة. وللفن التشكيلي العراقي أهميته في التشكيل العربي عامة، وهو ما يدركه جيدا أغلب الفنانين المطلعين على تجارب زملائهم من المبدعين في بلاد الرافدين ممن يضيفون لمساتهم وقيمهم الجمالية على العمل الفني ليحوّلوه إلى قصص وحكايات بصرية تروى جزءا من تاريخ بلادهم.

ونادرة هي المعارض التشكيلية التي تهتم بالفن العراقي في تونس، آخرها هو معرض “عراقيون في المدينة” الذي انتظم في الفترة من الحادي عشر وتواصل حتى الخامس عشر من مارس الجاري في العاصمة تونس، وكان “متحفا عراقيا متنقلا” سافر بأعمال ثلة من خيرة الفنانين العراقيين وحملها إلى الجمهور التونسي من نقاد وصحافيين وفنانين ومتذوقين للفن، ليعرّفهم بتجارب أخرى قادمة من بلد يوصف بأنه مهد الحضارات.

“عراقيون في المدينة”، نظمه المتحف الوطني التونسي للفن الحديث والمعاصر بالتعاون مع المركز الوطني التونسي للخزف الفني سيدي قاسم الجليزي، وتم اختيار عنوان الأسبوع الفني كدلالة على حضور الفنانين المشاركين في المعرض داخل أسوار المدينة، أي مدينة الثقافة التونسية الملقبة بمدينة الشاذلي القليبي.

"عراقيون في المدينة" كان "متحفا عراقيا متنقلا" سافر بأعمال ثلة من خيرة الفنانين العراقيين وحملها إلى الجمهور التونسي
"عراقيون في المدينة" كان "متحفا عراقيا متنقلا" سافر بأعمال ثلة من خيرة الفنانين العراقيين وحملها إلى الجمهور التونسي

وشارك في هذا المعرض، 15 فنانا، 8 رسامين و6 خزافين ونحات إلى جانب معرض فني، كما يتضمن برنامج التظاهرة مجموعة من الورشات الحرفية في الخزف الفني بالمركز الوطني للخزف الفني لإنجاز جداريات تجمع الرسامين والخزافين.

والفنانون المشاركون هم: وضاح مهدي، صباح أحمد، زياد غازي، طه حنش، مراد إبراهيم، شنيار عبدالله، مثنى عباس، حيدر رؤوف، قاسم نايف، سعد العاني، تحسين الزيدي، تراث أمين، حسن إبراهيم، محمد غسان، علي رضا.

قسّم المعرض إلى قسمين أحدهما مخصص للرسم برواق “مقام” والآخر مخصص للخزف برواق “خزفيات”، والاثنان انعقدا ضمن قاعات العرض الخاصة بالمتحف الوطني التونسي للفن الحديث والمعاصر الذي يمثل أحد أجنحة مدينة الثقافة الواقعة في العاصمة التونسية. كما انتظمت إلى جانب المعرض ورشة في الخزف بمشاركة الفنانين العراقيين وآخرين تونسيين، أشرف عليها المركز الوطني التونسي للخزف الفني.

أول عراقي قدم إلى المدينة، كما جاء في البيان المصاحب للمعرض، هو الفنان وضاح مهدي، وهو فنان يشتغل على أفكار من حاضر العراق ليعيدها نحو الماضي ويستشرف مستقبلها، محاولا تحرير نفسه وقدراته على الإبداع من القيود، وهو يقتبس من أشعار وسير ذاتية شهيرة لفنانين عرب مواضيع للوحاته التي تسرد حكايات ذات خصوصية موغلة في انتمائه إلى العراق، تكشف بألوانها وشخوصها عن طبيعة العراقيين وميزاتهم ومميّزاتهم على مدى التاريخ.

وتعد لوحة “ولادة الشرق الأوسط الجديدة” التي أنجزها في العام 2020، عام الأزمات غير المسبوقة التي جاءت لتكمل سلسلة من التغيّرات وتعلن بالفعل عن ولادة شرق أوسط جديد في ظل التغيرات العالمية، إحدى أشهر لوحات الفنان، وهي لوحة تعبّر بشكل مباشر عن ولادة مشوهة لكل شيء جميل يستحق أن يرى النور في منطقة شهدت تشرذما واضطرابات يجهله الإنسان في الغرب، لذلك رأى الفنان أنها لا بد أن تكون ولادة متحررة من كل الأزمات والسلبيات والظلام اللوني.

ترجم الفنان هذه الأفكار ابتداء من عنوان لوحته وصولا إلى الألوان والشكل الأساسي المكوّن للوحة، وهو الجسد، جسد الطفل الذي يتوسط مساحة محمله ويشكل العنصر الأساسي والعامل الأهم لجذب الانتباه ألا وهو جسد الطفل الذي ينطق صمته بآلام أطفال الشرق، وأحلامهم في التحرر من كل القيود.

المعرض قسّم إلى قسمين أحدهما مخصص للرسم برواق "مقام" والآخر مخصص للخزف برواق "خزفيات"

وضاح مهدي من مواليد بغداد عام 1974. لديه عدد من المعارض الفردية ومشاركات محلية ودولية، من أبرزها مشاركته في “معرض الفن العراقي” في “متحف ميتس” في فرنسا عام 2016، و”معرض نوافذ” في روما/إيطاليا عام 2017، ومشاركة في “الملتقى التشكيلي العربي الثاني” في الدوحة 2018.

يؤمن مهدي أن “الفنان يجب أن يستمر في الإنتاج والبحث والتطوير في العمل الفني. وكلما وصل الفنان إلى مرحلة معيّنة من الإبداع، يجب عليه ألا يتوقف، لأن هناك طاقات إبداعية لم تُكتشف بعد وهذه الطاقات يتمّ اكتشافها من خلال العمل الجاد والبحث والتطوير”.

ثاني العراقيين القادم إلى المدينة، هو الخزاف حيدر رؤوف، الفنان الشهير بعشقه للطين، فرغم أنه درس السيراميك ومن ثم أصبح مدرسا له في كلية التربية الفنية لا ينفك يؤكد عبر أعماله عشقه الأزلي للطين الذي يعتبره “مطهرا للجسد والروح”.

ويعمل الفنان العراقي بمبدأ أن خياله الأبعد لا يجب أن يستنسخ موروثاته الفنية والثقافية، بل ينتقي منها ما يشكل حاضرا لتطبيقاته الفنية، وما يشكل فعلا فنيا لا يخضع لقيود الماضي ويعيدها في حاضر شديد الاختلاف، وهو ما يبدو واضحا من الأعمال الخزفية التي يشارك بها في معرض “عراقيون في المدينة” التي تأخذ من الفن العراقي الماضي خصائص النقش واللون والكتابة السومرية لكنها أعمال معاصرة ومبتكرة.

حيدر رؤوف من مواليد بغداد العام 1964، حاصل على بكالوريوس فنون تشكيلية تخصص خزف في كلية الفنون الجميلة في بغداد، وماجستير فنون تشكيلية تخصص خزف في كلية الفنون الجميلة بابل.

ويحضر في مدينة الثقافة أيضا، الفنان شنيار عبدالله، وهو فنان خصص تجربته منذ ستينات القرن الماضي للتعامل مع الطين، المادة التي تحضر بقوة في أغلب تاريخ العراق الفني، وكانت أعماله نسقا فكريا وتخيليا مميزا لمفردات واقعه وكنوز بلاده، يعيد تشكيلها وفق أفكاره الذاتية.

Thumbnail

يعتمد الخزاف العراقي على الجانب الجمالي الفني في إنتاج منحوتاته الخزفية والارتقاء بها إلى أشكال غير تقليدية، هي أقرب إلى المعمارية الهندسية، معتمدا على دراسة الكتلة والفراغ كقيمة فنية تجعله خارج أطر التقليد والموروث.

وقدم إلى المدينة أيضا، الفنان العراقي قاسم نايف الذي عرف بأنه يؤسس عمله الخزفي بين ثنائية الجسد ولغة العقل، ويجعله مزيجا بين التراث والمعاصرة، متبعا التبادلية بين الخزف والنحت، ففن الخزف عنده ليس مجرد شكل يملأ الفراغ بل هو عالم خاص به مؤسس وفق أسس متفاعلة تظهر بشكل مباشر في القطعة الفنية الخزفية والمادة المستعملة لتشكيلها.

الفنان ورغم عدم حضوره الكبير في عالم الميديا وغيابه تقريبا عن عالم السوشيل ميديا ما يجعل المعلومات عنه غير متوفرة، إلا أنه حاضر في الفعل الفني العراقي منذ عقود، وتخضع أعماله وتجربته للدراسة والبحث والتحليل، ويتم تدريسها لطلبة الفنون الجميلة في بغداد لما لها من قيمة فنية جعلتها ترتقي إلى مصاف الأعمال ذات الجودة والإشعاع العربي والدولي.

لا يسمح لنا المجال بالتطرق إلى كل تجارب الفنانين العراقيين المشاركين في معرض “عراقيون في المدينة” لضيق المساحة ولغياب المعلومات الخاصة ببعضهم، لكن يمكن القول إن الأعمال المشاركة في معرض “عراقيون في المدينة” انقسمت إلى منحوتات ذات أشكال مختلفة وتقنيات متنوعة، بعضها كان على شكل مقتنيات لشخوص مجهولة منها كتب وحافظات وأخرى منحوتات خزفية تجمع بين المعاصرة وخصوصيات الفن العراقي الأصيل. هي أعمال تستعرض خصوصية العمل الفني التي تحددها مكوناته، وطريقة إنتاجه كالمادة الخام وطرائق تشكيله والتقنيات التي يتم إخراج الشكل النهائي للعمل الخزفي من خلالها. أعمال اتخذت أشكالا متعددة باختلاف تقنيات التركيب الطيني وتقنيات التزجيج.

وبعض الأعمال المعروضة الأخرى هي لوحات جمعت بين أساليب متعددة لكن بعضها يعبّر بدقة ووضوح عن علاقة العراقي بالحرب، الحرب الحاضرة دوما في حياته في كل زمان ومكان ومنذ عصور طويلة وكأنها كتبت عليه لتكون حاضرة في حياته وتشكيلاته الفنية، بكل ما يدل عليها من أسلحة ومعدات.

هي لوحات حملت من بلاد الرافدين إلى قرطاج رسائل من الفنان العراقي الذي ابتدعها ومن العراقي الذي ألهمه أيضا وكان سببا في هذا الخلق الفني. لوحات تبوح بأسرار شعب، بتقاليده ومورثه الفني والثقافي وبخصوصياته وهويته المختلفة كليا، وتقدم للمطلعين من نقاد وفنانين تونسيين مساحة لاكتشاف تجارب الآخر والتعرف عن قرب على الخصوصيات الفنية وكذلك تعزيز التبادل الثقافي بين البلدين ولمَ لا خلق سوق للفن التشكيلي بينهما.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
14