"عدو كامل".. معماري يقل فتاة معه إلى المطار فتنقلب حياته رأسا على عقب

من علامات نجاح أي فيلم هو أن يقحم مشاهديه في دوامة من الأسئلة والصراعات المشوقة، وقليلون هم المخرجون الذين ينجحون في ذلك في حيز ضيق سواء تعلق الأمر بالمكان أو بالشخصيات أو الأحداث، على غرار فيلم “عدو كامل” الذي يقود بطلاه المشاهدين في دوامة من الشكوك.
المصادفة وحدها قد تقلب موازين حياة الشخصيات وتحدث تحولا جذريا في الدراما الفيلمية، مصادفة سوف تكون بمثابة حبكة إضافية فرعية تغير مسار الأحداث وتجعل المشاهد يعيش في حالة من الترقّب والدخول في دائرة الشك والتساؤل حول ما ستفضي إليه الأحداث من تحولات في مسار الشخصيات.
تنطبق هذه المقدمة على فيلم “عدو كامل” للمخرج الإسباني كيكي ميلو، وهو يقدم شخصياته المحدودة وهي تواجه إشكاليات شتى تتعلق بوجودها وعلاقاتها، وكيف يمكن أن تنقلب نشوة النجاح إلى أزمة عميقة لا تجدي معها أنصاف الحلول.
لوليتا نابوكوف
ها نحن نشهد للمعماري جيرمياز (الممثل توما س كوت) نجاحته العالمية وهو يلقي محاضراته في فرنسا، ثم يغادر سريعا وسط جو ممطر لتطرق نافذة السيارة الفتاة الشابة تيكسل (الممثلة أثينا ستراتيس) التي تقطعت بها السبل ولم تستطع الحصول على سيارة أجرة تقلها إلى المطار، فتطلب من جيرمي أن تنظم إليه في الطريق إلى المطار.
ما بين الانطلاق إلى المطار والوصول إلى هناك وعلى افتراض أن ما قدمه جيرمي من موقف إنساني سوف ينتهي بالوداع، لكن ذلك لن يقع قط، إذ ستستمر الفتاة تيكسل في ملاحقته في حوار ذاتي متشعب تكشف فيه طفولتها القاسية وعلاقتها المربكة مع والدتها المتزوجة من شخص شره وعدواني، وصولا إلى مراهقتها المبكرة وشخصيتها العصابية المتوترة التي يفترض أن تنتهي بملاحقة امرأة في وسط مقبرة باريسية.
لوحدها تلك المشاهد العاصفة في المقبرة سوف تفصح عن الكثير في ما يتعلق بشخصية تيكسل المعقدة وهي تذكرك في جوانب من أفعالها بشخصية لوليتا نابوكوف والتي عرضت على الشاشات في أفلام عدة، لكن الفارق أن لا علاقة حب تقع بين الشخصيتين بل سجالات وأجواء شك تخرج المعماري الرصين من وقاره وتجعله متحيرا في أمر هذه الفتاة التي قلبت حياته رأسا على عقب.
الخطوط السردية المتداخلة والحوارات التي ميزت طباع شخصيتين دفعت بهما مساحة زمنية للقاء عابر للكشف عن حقيقة كل منهما وما اختزناه من ذكريات ومواقف وخاصة في تلك الحقبة من الطفولة.
يتجه المخرج إلى مجموعة من الحلول الإخراجية لكي يخرج شخصياته من تلك القوقعة الذاتية التي تعيش فيها، أن يضع كل من الشخصيتين في مواجهة أزمتيهما وذلك من خلال بوح كل منهما عما يخبآنه من ماض وخبرات، هي وعلاقتها مع كل من هم من حولها وهو في طفولته المبكرة لكن المعماري الذي وصل درجة عالية من الخبرة والنضج ما يلبث أن يعود إلى رشده متسائلا عن تلك القدرة التي تمتلها الفتاة لكي تتمكن من استدراجه إلى هذه الدرجة وكلما انتفض مرة عاد إلى تلك القوقعة التي لا فكاك منها.
دوامة صراع
ينشغل المخرج بجماليات عميقة وتجليات شعرية محورها امرأة واحدة كانت قريبة من عالم الشخصيتين أو هكذا يتم إيهام المشاهد بأن الشخصية المستهدفة واحدة، والتي تنتهي في كل الأحوال بالاختفاء من وجهة نظر المعماري وبالقتل من وجهة نظر الفتاة وهي التي قتلتها بيدها.
سوف يكون الماضي والاسترجعات حلا تعبيريا وإخراجيا يكشف عن جماليات أخرى تتعلق بالشخصيتين، بالعلاقة الملتبسة بامرأة واحدة (الممثلة مارتا نيتو) وهي تجد نفسها محاطة بشخصيتين إشكاليتين في آن معا، لا تجد نفسها على وفاق مع أي منهما، الازدواجية تخلق هنا جدليتين وخطين سرديين متوازيين وينجح المخرج في وضعنا في صميم ذلك الصراع الإشكالي الذي لا تعرف نهاياته.
في موازاة ذلك سوف ينجح كاتب السيناريو في بث فكرة المؤامرة التي يتعرض لها المعماري المحترف وذائع الصيت، فلا يجد تفسيرا آخر، أن تلك الفتاة قد استهدفته شخصيا وأن كل ما تدعيه وترويه ما هو إلا تلفيق وكل تاريخها تلفيق أيضا، إلى درجة أنه يطلب منها جواز سفرها فيتأكد من اسمها وأنها فتاة هولندية فعلا.
السؤال المشترك الذي ينجح كل من فريق كتابة السيناريو والمخرج في زج المشاهد فيه هو كيفية الخروج من تلك الأزمة والدائرة الإشكالية التي تدور فيها الشخصيتان وهل هي حقا ليست إلا ابنته من زوجته التي اختفت وهي حامل قبل عشرين عاما، سؤال مصيري قد يكون احتمالا إضافيا يعزز تلك الدوامة العميقة والتي لا نهاية لها.
تضاف إلى ذلك من عناصر النجاح في هذا الفيلم هو كونه مرتبطا بقيمة مكانية واحدة مشتركة وهي التي سوف تشهد الصراع بكل تجلياته وتحولاته.
على أن ما يمكن التوقف عنده في تلك الدائرة المكانية الممثلة في المطار والتي يتم فيها التخلف عن رحلات طائرات والبقاء في إطار أرض المطار الذي هو في الأصل قام المعماري بتصميمه ولكن في أماكن عدة منه هنالك ماكيت تظهر فيها الشخصيتان ومن أمامهما بقع من الدم.
في كل ذلك برعت الممثلة الشابة أثينا ستراتيس بشكل ملفت للنظر في أداء دور مركب وتمكنت من التنقل بمهارة بين تحولات الشخصية وذكرياتها وطبيعتها العصابية المنفلتة أحيانا والمنطوية على نفسها في أحيان أخرى وخلال ذلك برعت أيضا في الإيحاء بالتدفق الحر للشخصية وهي تكشف عن ذاتها وخبراتها الماضية وصولا إلى المواجهات المتكررة مع الشخصيات الأخرى.