عبدة الصورة يظلمون الثقافة السمعية في العالم العربي

الثقافة السمعية أصيلة ومتأصّلة في الوجدان العربي والإنساني والدعوة إلى تهميشها من طرف الذين يجهلون قيمتها خطأ كبير.
الجمعة 2021/06/25
الكلمة أكثر إنباء من الصور

هناك الكثير من الكليشيهات المغلوطة والتي صارت قناعات راسخة رغم زيفها وعدم دقتها، من بينها أن هذا العصر هو عصر الصورة، وهو ما يلغي المحامل الأخرى كالكتب والسماع، لصالح الصورة، وهذه مغالطة كبرى، حيث إن ثقافة السماع والكلمة عبر الراديوهات أو أثناء التنقل أو الجلوس في مكان ما أو الاسترخاء وغيره، تفوق استهلاك الصور.

الكتاب المسموع كان له حضور للمرة الأولى في الدورة الحالية لمعرض الكتاب التونسي، التي تنتهي فعالياتها يوم 27 يونيو الحالي، كما قال محمد المي مدير المعرض، وذلك من خلال عدد محدود من العناوين، لكنه حضور واعد وطموح، خاصة من خلال المجموعة القصصية “سهرت منه الليالي” لعلي الدوعاجي، الذي عاش في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وكتاب “صوت الفقراء” بصوت الفنان “رؤوف بن عمر”، بالإضافة إلى تقديم موسوعة الإسلام لـ”معهد تونس للترجمة”.

هذا الأمر يؤكد أن المادة السمعية في الحياة الثقافية والإنتاج الإبداعي لا تزال وازنة وذات قيمة إضافية من النواحي الإعلامية والصوتية والأرشيفية، وليس فقط، تلبية
لحاجة المكفوفين والمسنين كما يظن البعض.

الكلمة المسموعة

"الهايت فون" أو السماعة المحمولة أصبح أكسسوارا لا غنى عنه في حياتنا المعاصرة

تتعاظم أهمية المادة السمعية يوما بعد يوم في عصر الرقميات رغم تبجّح بعضهم وادعائه أننا في عصر الصورة وما أدراك ما الصورة.

والحق أن هذه العبارة “الكليشيه” التي ما ينفك يرددها البعض عن معرفة أو جهالة، لا تلغي الكلمة أو تهمّشها بل تثبّتها وتقوّي من نفوذها وسطوتها عندما اقترنت الكلمة بالصورة، وأصبحت الاثنتان توأمين لا ينفصلان. بدليل أن كل محطات الإذاعات الآن، أصبحت لها كاميرات ثابتة في الأستوديو، تنقل صور المتحدثين على الأثير، تعرّف بهم بصريا وتدعم حواراتهم بالصور والأرقام اللازمة والمطلوبة.

والمؤكد أنه في عصر السرعة واختصار المسافات، وعدم تمكن إنسان العصر من الجلوس في مكان واحد وتخصيص عينيه لتتبع شاشة واحدة في أزمنة المشاهد المتحوّلة، انسحبت الصورة لصالح الكلمة المسموعة واستعادت حظوتها التي ظن الكثيرون بأنها فقدتها.

“الهايت فون” أو السماعة المحمولة أصبح أكسسوارا لا غنى عنه في حياتنا المعاصرة، وبات مألوفا في أيامنا هذه أن تلمح غالبية الناس يسيرون أو يجلسون أو يقفون في الطوابير وهم يرتدون سماعات على الأذنين.

يتفق الجميع على أن السمع أكثر سلاسة وأريح على الفرد من النظر الذي يمنعه من التركيز والاسترخاء. كما أصبحت الإذاعة هي “رفيق الطريق” بالنسبة إلى هذه الجحافل الهائلة من المركبات التي تغص بها الطرقات، إضافة إلى المترجلين والمهرولين والمتسكعين وممارسي رياضة المشي والمسنين وفاقدي البصر.

الإذاعات الثقافية في البلدان الأوروبية مثلا، هي عبارة عن مكتبات مكتنزة الرفوف، متنوعة المصادر وفائقة الجودة والرقي لإنتاجات أدبية وفكرية وموسيقية وتشكيلية. هي مشاريع ثقافية تدعمها الدولة وبمساهمات ورعايات خاصة، تعزز حضورها بقوة بين مختلف الفئات العمرية دون أن تنزلق نحو الرتابة أو التفاضلية، وذلك بإشراف نخب من الأكفاء في إدارة الحوارات وتغطية النشاطات.

أهم الإذاعات الثقافية في أوروبا والتي تحظى بمتابعات وجمهور عريض، تحسب لفرنسا وألمانيا، وكذلك هولندا وإيطاليا، وفيها يستنشق المستمع جرعة كبيرة ومنعشة من المعارف والثقافات بمجرد أن يضع السماعات على أذنيه ويختار ترددها الهوائي أو موقع بثها الرقمي.

ثقافة أصيلة

أهم الإذاعات الثقافية في أوروبا والتي تحظى بمتابعات وجمهور عريض فيها يستنشق المستمع جرعة كبيرة ومنعشة من المعارف والثقافات بمجرد أن يضع السماعات على أذنيه
أهم الإذاعات الثقافية في أوروبا والتي تحظى بمتابعات وجمهور عريض فيها يستنشق المستمع جرعة كبيرة ومنعشة من المعارف والثقافات بمجرد أن يضع السماعات على أذنيه

لعل التجربة الوحيدة التي أثبتت جدارتها في العالم العربي، وبشهادة من أهل الاختصاص، هي إذاعة تونس الثقافية التي تأسست عام 2006، وصنعت لنفسها برمجة ثقافية مختصة في مقاربة ومناقشة جلّ الفنون الإبداعية والفكرية وتقديم نجاحات عدة في المجال الثقافي، كما أنها مثلت منبرا للمثقفين والمبدعين للتعريف بإبداعاتهم في مجال الفن والثقافة والأدب وكرمت العديد من النشطاء في مجال الثقافة. وتتكون الهيئة المنتجة والمشرفة لبرامج الإذاعة من إعلاميين وصحافيين إضافة إلى مبدعين ومفكرين. وعرف هذا المنبر الإعلامي والثقافي مدا وجزرا، نجاحات وإخفاقات، بحسب المديرين المتعاقبين، وتقلص أو تمدد المحسوبيات، لكنها تعتبر مكسبا ثقافيا لا يمكن التفريط فيه.

وتمكنت الإذاعة بفضل عملها الجدي وسعيها الدائم للنهوض بالمشهد الثقافي من اكتساح المشهد الإعلامي وتوّجت بعدة جوائز في إطار مشاركتها في تظاهرات ثقافية وإعلامية وطنية ودولية.

الإعلام الثقافي السمعي لا يمكن أن يكون بديلا طبعا عن المؤسسات المعنية والمتخصصة، لكن بإمكانه أن يكون مكمّلا ويلعب دوره الترويجي والتوعوي، بل هو منارة من المنارات التي لا ينبغي الاستغناء عنها أو الاستهتار بها في هذا العصر الذي أعاد الاعتبار للأذن كوسيلة تثقيف، وعلى عكس مما يعتقد المردّدون بشكل ببغائي، أن العصر هو عصر صورة، ولا شيء غير الصورة.

ليس الأمر دعوة للعودة إلى عصر الكتاتيب وثقافة التلقين أو مقاطعة للمكتبات ودور العرض والقراءة بشكلها الكلاسيكي، لكنه التماهي مع الطبيعة البشرية التي يحتل فيها السمع فضاء أوسع وأكثر أريحية من أسواق البصريات التي يختلط فيها الصالح مع الطالح.

المردّدون بشكل ببغائي أن هذا عصر الصورة عليهم أن يقروا بأن هذا العصر أعاد الاعتبار للأذن كوسيلة تثقيف

الثقافة السمعية أصيلة ومتأصّلة في الوجدان العربي والإنساني، وبفضلها تهذبت النفوس، والدعوة إلى تهميشها من طرف الذين يجهلون قيمتها تبقى غير مواكبة للعصر ومفرداته، بدليل أن الراديو استعاد عافيته وصار له حضوره الآسر في العالم كله.

يكفي المثقف العربي أن يعلم أو يتذكر بأن كبار أقطاب الفكر والثقافة في العالم العربي قد مروا من أثير الإذاعة كطه حسين في “حديث الأربعاء”، وغيره من الذين وصلوا إلى شرائح اجتماعية عريضة عن طريق الكلمة المسموعة في أزمنة الأمية.

هذا دون أن ننسى الموسيقى والدراما الإذاعية، بالإضافة إلى الشعر والقصة والحوارات المتنوعة التي تنبعث من جهاز الراديو، ليس كوسيلة إعلام وحده بل منبر للتثقيف واكتساب المعرفة والتحاور الإيجابي.

14