عبداللطيف الوراري: هناك نسيان مشرقي لما يحدث في ثقافات المغرب

تحفل الشعرية المغاربية بالكثير من التجارب التي لم يسعف أغلبها الحظ مقارنة بنظيراتها المشرقية في أن تنال الإحاطة النقدية وتسليط الضوء على منجزها، فقد كانت الثقافة العربية مركزية في المشرق مهمشة الأطراف، وهو ما تبدد اليوم بالنهضة التي تشهدها هذه الأطراف ممثلة في دول المغرب والخليج العربي. “العرب” حاولت رصد تجربة نقدية هامة يخوضها الشاعر المغربي عبداللطيف الوراري في ربط لجسور التواصل بين المشرق والمغرب من خلال كتابه “الشرفة والرماد، دراسات في الشعر العربي وقضاياه“.
في كتابه النقدي الجديد بعنوان “الشرفة والرماد، دراسات في الشعر العربي وقضاياه” يسعى الشاعر والناقد المغربي عبداللطيف الوراري إلى إظهار الجسور الخفية بين الثقافتين العربيتين المشرقية والمغربية، ويكشف عن مشتركاتهما الكبيرة وتقاطعهما، دون أن يغفل خصوصية كل منهما.
ونجد في الكتاب إحاطة هامة بأبرز التجارب الشعرية العربية، التي ينزلها الوراري في سياقها الثقافي دون أن يسعى إلى عزلها جغرافيا، مكتفيا بتصنيفه بمعطى “المعاصر” بما يحمله من أبعاد جمالية وفكرية وزمنية.
تبديد سوء الفهم

الكتاب لا يدرس قضايا شعرنا المعاصر فحسب، بل يحاول أن يقيم جسورا بين الشعريّتين المغربية والمشرقية
يشتمل كتاب “الشرفة والرماد، دراسات في الشعر العربي وقضاياه”، الصادر أخيرا عن مؤسسة “أبجد للترجمة والنشر والتوزيع” في العراق، على بابين كبيرين متراكبين يضيئان بعضهما البعض في الذهاب الإياب، فيبسط الوراري في الباب الأول من كتابه بعنوان “بابل الشِّعر” قراءات في تجارب وأعمال شعرية رومانسية وحديثة ومعاصرة للشعراء علي محمود طه وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وأدونيس وصلاح فائق ومحمد السرغيني وعلي جعفر العلاق ومليكة العاصمي وأمجد ناصر وأسعد الجبوري ونورالدين الزويتني وبـاسم فرات وأمينة المريني، إلى جانب نصوص من الشعر النسائي وقصيدة النثر المغربية والحساسيات الجديدة التي يجترحها شعراء جدد من المشرق والمغرب.
أما الباب الثاني بعنوان “في الفكري الشعريّ” فيناقش قضايا وإشكالات معرفية وجمالية ترتبط بإبدالات الكتابة الشعرية الجديدة. وتتعلق باللغة، والمعنى، والإيقاع، والغنائية، والسيرة الشعرية، وتداخل الشعري والنثري وغير ذلك.
ولا يدرس الكتاب النقدي قضايا شعرنا المعاصر فحسب، بل يحاول أن يقيم جسور المعرفة والثقة بين الشعريّتين المغربية والمشرقية، بقدر ما يحاول أن يبدّد سوء الفهم الذي ساد، ولا يزال، بينهما في سياق إشكالية المركز والمحيط.
يقول الوراري “ظل سؤال الشعر، في قديم الثقافة وحديثها، سؤالا إشكاليا. ثمة أسئلة، ضمن أخرى، تضعنا في قلب الإشكالية لكننا لا ننشغل، هنا، إلا بواحد من مناحي النظر الذي ظل معتما ومحتجبا في الخطاب الثقافي رغم قيمته الرفيعة، وهو وضع الشعر في/ من زمنه، وهويته الجمالية وأخلاقياته، ورؤيته للعالم من غير أن نغفل -في زخم ذلك- عن الإبدالات السوسيوثقافية التي طبعت مفهومات الذات والآخر، والمعنى والنوع وأوضاع الكتابة”.
الشعر المعاصر
تسأل “العرب” الوراري عن رأيه في إبدالات الكتابة الشعرية الجديدة التي يتناولها بالدرس في كتابه، فيقول “من خلال ما أتيح لي من مواكبة واطّلاع على مجمل التجارب الجديدة في البلاد العربية، بما في ذلك الهوامش التي حلّت محلّ المركز (المغرب، تونس، اليمن، السودان، فلسطين، السعودية..)، أستطيع أن أقول إن شعرنا المعاصر يعرف دورة جمالية جديدة تضطلع بها -كما أسميتها في أكثر من مناسبة- ‘حساسيّاتٌ جديدةٌ’ يقودها وعي شابّ منشقٌّ وغاضب ويائس ومندفع إلى قول ما لا ينقال”.
ويستشهد الشاعر والناقد المغربي بما اختطّتْهُ هذه الحساسيات الجديدة، إلى جانب تجارب شعرية مكرسة ومستمرة، من إبدالات جديدة؛ مثل إحلال الوعي الكتابي والدرامي محل الغنائي في الرؤية للعالم، وتحرير اللغة من مسبقات الشكل والمعنى وربطها بالتجربة الكيانية للذات، وتداخل الشعري والسردي، وتنامي القصيدة السيرذاتية، وصعود أشكال وجيزة مثل الشذرة والهايكو، علاوة على ما أحدثته من لغات وأساليب ورؤى واختراقات جمالية مغايرة، أنثوية وعرفانية وسريالية، تتناسب مع شرط الكتابة المفتوحة.
دول المشرق العربي، خاصة العراق والشام ومصر، شهدت نهضة ثقافية هامة لكنها لم تدرج المغرب العربي ضمن اهتمامها
ويضيف لـ”العرب”، “لا أبالغ إذا قلتُ إن هذه الإبدالات الجديدة تمثل بحد ذاتها قطيعة أخرى ضمن قطائع الشعر العربي التي عرفها منذ بدايات القرن العشرين، وذلك في علاقة متوترة بالعصر الذي نعيشه بكلّ اشتراطاته السياسية والسوسيوثقافية، والذي حمل إلينا تحولات خطيرة مسّتْ جوهر علاقة الإنسان المعاصر بما حوله، بل مسّت علاقته بنفسه ورؤيته للعالم المتقلب والمنذور للاندثار والزوال”.
لهذا لا يصحّ، في رأي الوراري، أن نتناول قضية الشعر المعاصر بمعزل عن هذه التحوّلات بانفجاراتها وهجراتها وإحباطاتها وموجات اليأس والشك والعدمية التي أشاعتها. ويقول “الاقتراب من هذا الشعر يلزم تغيير زاوية النظر وأدوات تحليل الخطاب على نحو ما يكشف لنا مدى الإضافات النوعية التي تخلّقت في رحم التجربة الشعرية الجديدة التي عانقت أفقًا جديدًا لا عهد للشعرية العربية به، بقدر ما أنّها انفضّت عن مقولات ‘الجيل’ و’ثنائية الشكل والمضمون’ و’ما يطلبه الجمهور’ وغيرها من المقولات المتحجّرة التي تعمى عمّا جرى للشِّعر وفي نهر الشعر من إبدالات خاصّة، انعكست على طبيعة لونه ورائحته ومدى عمقه”.
ويأتي كتاب “الشرفة والرماد، دراسات في الشعر العربي وقضاياه”، وفق الوراري، لردّ الاعتبار لشعرنا المعاصر، في وقت تعالت فيه نبرة دعاوى القائلين بأنّ الشعر خفت صوته وانحسر دوره، أو أنّه يمرّ بأزمة حقيقية تهدد وجوده، أو أنّه لم يعد يستأثر بأولوية لدى الذائقة المعاصرة بفعل بروز فنون أخرى أكثر جاذبية وتمثيلًا لحركة المجتمع، أو أنّه يمثل ارتدادًا عما تحقّق للقصيدة العربية.
المركز والأطراف
تسأل “العرب” الوراري عن أية جسور يتحدث في رصده للعلاقة بين الشعر المغربي والمشرقي؟ فيجيب “أنت تعرف أن دول المشرق العربي، وبخاصة العراق والشام ومصر، كانت تشهد نهضة ثقافية على مستوى الكتابة والنشر والتداول، إلا أنها لم تدرج دول المغرب العربي ضمن اهتمامها، وهو ما جعلها تنتج مركزية قاسية ومتعالية كانت لا تنشغل وتفكر إلا بذاتها، واختصرت الإنتاج الأدبي والثقافي في جغرافية محدودة، بل أحيانا كانت تستثني الثقافة المغاربية من الانتماء العربي وتراها مجرد ملحق أو صدى وليست متنا مختلفا وقادرا بدوره على المساهمة في هذا الإنتاج”.
ويتابع “حدث كل هذا في سياق تاريخي وسياسي معروف مضى، ولكن من المؤسف وغير المفهوم أن يستمر هذا ‘النسيان’ المشرقي وعماه عما يحدث في ثقافات المغرب وآدابه وفنونه، رغم أن المركز نفسه قد تعرض للتشظّي نتيجة التصدعات التي أصابت هذه الدول، وبعد الذي شهدته هذه الهوامش والأطراف (دول الخليج والمغرب تحديدًا) -في المقابل- من نهوض على أكثر من صعيد، وهو ما غَيّر قواعد اللعبة بين ضفتي العالم العربي”.
ويضيف الوراري “صحيحٌ أنّ ثمة نوعا من تبدل العلاقة ‘الاستعلائية’ بين ضفتي هذا العالم، ولكن الواقع السياسي البائس لا يشجع على توطيد أواصر الحوار الثقافي. وفي هذا السياق يحاول الكتاب الذي يصدر لكاتب مغربي في أرض العراق أن يقيم من موقعه -على الرغم من ضآلته- جسوراً بين الشعرين المغربي والمشرقي، حين يدرس قضاياهما وإشكالاتهما ضمن القصيدة العربية الجامعة دون متعاليات، وخارج ثنائية الأثر والصدى، وبالتالي يريد أن يقيم أود ما انثلم ويصل ما انقطع داخل سيرورة القصيدة وتاريخيتها. فنحن جميعاً من ذرّية هذه القصيدة، ونحن أبناؤها حتى عندما ننتقدها”.