عبدالقادر مسكار.. فنان مغربي يصنع لوحاته من الأوشام والألغاز والرموز المحيّرة

يقر الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين أن الفن المعاصر في السياق العربي ينطلق من قاعدة فكرية تراهن على توزع حقل القيم وتشظيها في تعامل الجمهور مع العمل الفني. فمن جهة ثمة رهان على العمل ذي العمق المفهومي والرمزي، المنبني أساسا على سنن حجاجية، الرافض والمُفكِّك، ومن ثم قد يبدو منفرا وعدوانيا تجاه العالم، انتقاديا للحاضنة الثقافية التي تبلورت فيها صيغه ومقولاته ورهاناته. وهذا ما نجده في الكثير من التجارب التي قد لا تضع التمرد رهانا محوريا فيما هي تتخطى لها مسارات أخرى للتلقي تتجاوز المألوف وتذهب إلى ما هو أبعد من الفكرة الجاهزة أو الجمالية المؤطرة، أي إلى زعزعة الأنظمة وتقديم خطاب يتغير كلما تغير المتلقي، تماما كما هو شأن لوحات الفنان المغربي عبدالقادر مسكار.
تكاد تختفي ملامح الصور في أعمال الفنان التشكيلي المغربي عبدالقادر مسكار، وتحتل مكانها بقوة الرموز والعلامات، والأوشام. غير أن لوحات الفنان تظل محتفظة بالملامح والهيئات، بما يدل على الصورة ولا يشير إليها بالشكل المباشر، فلا يمكن عزل العمل الفني عن ثنائية الصورة والرمز، الإدراك والتأويل بتعبير آخر.
وفي ظل هذه الثنائية غير القابلة للانفصال، فالرمز لديه يتحول إلى صورة أو علامة مجردة، لها دلالتها وقابلية التأويل المتعددة. ما يجعل عمله يوصف بأنه “تعبير رمزي”، لكن لا يربطه أي رابط بتيار “الرمزية” التشخيصية، بل إن حضور الرمز المكثف والغني فيه هو ما يمنحه “الروح”: قدرته على التعبير عبر الغموض.
الشكل المثالي للوجود
منجز مسكار يكتسي إيقاعاته القادمة من عوالم الموسيقى والفن المغربي الشعبي المتصل أيضا بالجذور الأمازيغية والأفريقية
يتكئ، إذن، عمل مسكار على الغموض، فهو لا يفصح عما يريد قوله بالسهولة والبساطة، بل يفرض على المتلقي أن يُعمل ملكة الخيال والتخيّل، أي أن يفكر في ما وراء الظاهر. أو بمعنى أدق أن يعبّر بالتجريد عن المجرد والملموس.. وبهذا فهو ينطلق من الأعماق، من الباطن، للتعبير عن الظاهر. ليس المنوط من الغموض، الستر والإخفاء، بالكشف والإظهار، وذلك عبر إعمال ملكة التفكير والتأمل، ما يستوجب التأويل بكل معانيه وتعدده، ما يجعل المنجز قابلا لكل صورة: لكل المعاني الممكنة.
ما يجعل عمل هذا الفنان عامرا بسُنن وشفرات تتجمع فيما بينها لتشّكل لوحة بوزل Puzzle قابلة للتركيب في أوجه متعددة ولانهائية، وهو ما يمنح المنجز تعدد قراءاته واختلافها من متلق إلى آخر. حيث إن دلالات الرموز تكاد تختلف من واحد فينا إلى آخر.. كل حسب تراكمه المعرفي والبصري. وهنا من أين يستمد العمل “روحه”: دورته الحياتية المتجددة عند كل قراءة/ نظرة. ولا يتحقق كل هذا إلا عبر ما يمتلك الرمز الموظف من قبل الفنان، والحال هنا عبدالقادر مسكار، من سلطة.
حضور الرمز وكثافته في منجزات مسكار التشكيلية، تجعل العمل يراوح وجوده بين الباطني والظاهري، بين السماوي والأرضي، كأننا أمام شطح صوفي، بقدر ما أن الجسد حاضر (هنا) فالروح غائبة (في ما وراء).
ويمكننا ملامسة هذا البعد الصوفي، أولا عبر ما أشرنا إليه سابقا في ما يتعلق بالغموض، وثانيا عبر ذلك الشكل الدائري الذي اتخذته مجموعة من لوحاته. حيث إن الدائرة الشكل الكامل والمثالي للوجود، بل إنها منبعه وأصله الذي تفرعت عنه الموجودات.
و”النقطة التي في وسط الدائرة هي معنى الحقيقة”، يقول الحلاج، و”معنى الحقيقة شيء لا تغيب عن الظواهر، والبواطن لا تقبل الأشكال”. والغموض لا شكل له، بل إنه كل الأشكال.
وشم بدن اللوحة
تأتي الرموز والأشكال التي تتوالد في اللوحات من تلك العلامات الصباغية المستقلة والمتعددة تتخذ سلطتها من تفردها، أو من تداخلها وتلاحمها في “نسق رمزي” له سلطته من حيث إنه بنية موحدة. فتخلق بالتالي، مفهوما متجانسا زمنيا ومكانيا، قابلا للتأويل من حيث إنه نسق بنيوي. أو من خلال تلك الكتل المادية التي ينشأ عنها حفر في بدن العمل: أو بمعنى أدق أوشام.
يترك مسكار في بدن (نسيج) لوحاته ندوبا، تغدو بفعل الوقت آثارا وسمات بارزة. وبما أن “الرموز هي بامتياز أدوات ‘التكامل الاجتماعي'”، كما يخبرنا بيير بورديو، فإن النسق الرمزي والرموز المستقلة وأوشام مسكار قادمة من أعماق التاريخ المغربي، من أبدان تلك النسوة وهن يعلمن أجسادهن للدلالة على مختلف حالاتهن الاجتماعية.
لغةً تشير كلمة الأوشام إلى تلك الرسومات التي تجعلها المرأة على جسدها، وكما تشير إلى نتوء ثدي المرأة. فنحن إذن أمام عمليتين يمكن أن نلمسهما في منجز هذا التشكيلي، الأول عبر تلك الرموز الصباغية والتي تنشأ عنها صور بصرية، لها معانيها الغنية. وثانيا من خلال تلك النتوءات البارزة التي تشكّلها المواد المتعددة التي تهب للعمل بدنه الملموس.
يحضر الوشم سواء على جسد الموشومة أو داخل اللوحة باعتباره كتابة، إذ إنه قابل في الحالة الأولى لأن نستخلص معناه ونربطه بصاحبته وحالتها الاجتماعية، بينما في الثاني فهو يتحول إلى رمز مكتوب وصُوَريّ بالتالي تُلغى عنه المباشرة ويمحى منه المعنى الواحد، فيغدو قابلا للتأويل ما يمنحه دلالات متغيرة من قارئ إلى آخر. فانتقال الرمز من سياق إلى آخر، من الجسد البشري إلى جسد اللوحة، يجعله يغني من معانيه ومفاهيمه.
إيقاع علامات العصر
لا تتخذ إذن رموز وأوشام وحفريات عبدالقادر مسكار أي معان واضحة ولا تدل على معطى محدد يمكن أن ننطلق منه لنبلغ ما تحاول اللوحة قوله بسهولة، بل إنه يشاكس المتلقي ويضعه أمام أحاجٍ وألغاز تبتغي لعبا لغويا بالرموز ومعانيها، كما يفعل الأطفال بلعبه الملغزة.
غير أنّ الحال هنا فاللوحة لا تتوقف عند “حل” واحد للغز، بل تستدعي مع كل قراءةٍ قراءةً أخرى. كل ذلك ضمن تنقل فني بين التصوير الرمزي الجديد والتجريد الغنائي. إذ يكتسي منجز مسكار إيقاعاته القادمة من عوالم الموسيقى والفن المغربي الشعبي المتصل أيضا بالجذور الأمازيغية والأفريقية: حضارة العلامة وحضارة الإيقاع بتعبير الخطيبي. وهو ما يجعلنا نصطلح على أعماله على أنها علامات ذات إيقاع خاص. وهو نوع من الاختراقات غير نمطية في بناء المنجز وتشييد هياكله وترميم بدنه.
الفنان يشاكس المتلقي ويضعه أمام أحاجٍ وألغاز تبتغي لعبا لغويا بالرموز ومعانيها، كما يفعل الأطفال بلعبهم الملغزة
مرحة في غموضها هي لوحات مسكار، مازجا فيها اهتمامًا بليغا بالألوان والأشكال والمادة وكثافتها التي تتحول إلى نتوءات بارزة تمنح للأعمال أبدانا. متأثرًا من ناحية بتراث الهوية المغربية، ومن ناحية أخرى بالموجات التشكيلية المعاصرة الجديدة التي تدعو إلى انفجار التمثيل المعياري لمزيد من التأثيرات، لهذا أنجز الكثير من الصيغ المفاهيمية التي تتوافق مع المعاصرة والعصر.
سنة 2001، ضمن فعاليات المعرض المشترك “فضاء الناس” بالدار البيضاء، استعان الفنان بالطبق الهوائي (Satellite dish) سندا لتشكيلاته الرمزية والتعبيرية. حيث تحول من لاقط للصور القادمة من الأقمار الصناعية إلى باعث للصور الرمزية المحيلة على الهوية. في إشارة للدخول إلى الزمن الجديد: زمن الصورة المتلفزة والافتراضية، ومعه بدأت عصْرَنة الهوية بكل ما تفرضه العولمة التي صارت تخترق منازلنا بطواعية منا وبلا رفض أو مقاومة.
وقد خلق العمل آنذاك الحدث في المعرض، وتولدت من بعده نقاشات حول المتغير الطارئ على المغرب بكل ما تفرضه التكنولوجية الحديثة من “صور جديدة وبديلة”، تتحرك بموجبها الهوية وتتغير. ما يجعلنا أمام هويات منصهرة عولمتيا ترتبط في ما بينها عبر جذمور خفي، تحول مع الوقت من الطبق الهوائي والتلفزيون إلى الهواتف والإنترنت.
فك شفرات الحلم
إذن يترك مسكار ألوانه ومِلونته ليبحر بحثًا عن مجسم يقترب من الحلم: وأليست صور الحلم افتراضية مثلها مثل تلك التي تظهرها شاشات التلفزيون؟
إنه الحلم بكل مكوناته وتفاصيله وقوته العاطفية. يضاف إليه ما تفعله الرموز بذاكرتنا، جاعلة منا نربط معها علاقات خفية وحميمية ونحن نحاول فك شفراتها وتحديد دلالاتها: مثلما نفعل إزاء الحلم.
فبقدر ما أن الرموز تتحول في أذهاننا إلى صور، نحاول قدر المستطاع أن نتذكرها ونتذكر علاقتنا الزمكانية معها، حتى نستطيع تفكيكها، فصور الحلم هي أيضا تجبرنا على استباق الزمن، قبل أن تتلاشى من أذهاننا لمعرفة ما كانت تريد إخبارنا به. وذلك لقراءة الطالع والمستقبل (العرّافون)، أو إدراك آثار الماضي (علماء النفس).. وهو ما قام به الطبق الهوائي، حيث جعلنا نتطلع لما سيأتي مستقبلا من تغيرات، وأيضا نعيد من خلالها إعادة قراءة الآثار الرمزية للهوية المنقوشة والموشومة والمحفورة عليه.
وفي الواقع، يعد هذا العمل الفني جزءًا من تصميم تشكيلي معاصر يدعونا للكشف عن مفاجآت اصطناعية وتقنية لا نهاية لها. من جهة أخرى، فإن مسكار يجتهد داخل منظومة الفن بكل ما تفرضه من حركية وتطور وتعدد للأسندة والمواد والحوامل؛ لكن بإخلاص “مرعب” لمآثر الخيال، حيث يخلق أعمالًا كامتداد لأبحاثه التصويرية والتشكيلية.
كل ذلك في دينامية أيقونية استباقية تفتح الآفاق على المجهول. ضمن اشتغال تجريد الهجين، يتحرر فيه الشكل والرمز من أي دلالة معطاة ومباشرة، ليسمح بفتح عروض بصرية جديدة داخل ألعاب تشكيلية (تشبه الألعاب اللغوية بالمعنى الفتغنشتايني). هذا ويتكئ الفنان في ألعابه هذه على تأثير الضوء وتناغم الألوان وتبايناتها، مضيفا إلى ذلك كتله المادية وكولاجاته – في بعض الأحيان – لتمنح العمل بدنا وبعدا: منظورا بديلا بمعنى من المعاني.