عبدالعزيز بلعيد مرشح حائر بين دور الأرنب والجوكر

الدعايات التي تلعب في الخفاء تميل إلى تقديمه على أنه أصغر المرشحين للرئاسة الجزائرية سنّاً، مع أنه تعدّى عمر الشباب بكثير. أما مخابر المفاضلة فتسرّب أنه “جوكر” العسكر وورقتهم السرّية التي ستطرح في ميدان رئاسيات 2019 والذي يبدو أنه ما زال غامضا ومبهما وغير معلوم أفقه، مع أن الأمور كما توضحها البيانات، تسير بخطى واسعة وسريعة نحو الموعد المرفوض جملة تفصيلا من طرف الحراك، وهيئة مستقلة تبعد مسافات عن الهواتف الرنانة في كل وقت.
الوزارات والإدارات والأوامر والنواهي تشتغل ليل نهار وعلى قدم وساق ولا تكلّ، ومرشحون تقدموا، كل يحمل ملفه الثقيل والمفصل والدقيق والمستوفي للشروط والعقود حول الرغبة والممتلكات المنقولة والعينية التي تجري تحت أيديهم. طبعا هذه الأخيرة هي محل تهكم وسخرية تطلقها المواقع والنوادي والأقاويل عن مدى صحة ما يعلنونه من ممتلكات ظاهرة وباطنة.
ميزتهم الأخرى أنهم تقريبا أبناء شرعيّون بالقوة والفعل والتاريخ والوقائع للنظام، تخرجوا من أطره وقواعده وضوابطه وآلياته، وانغرسوا في تربته وجذوره، حتى لو تبجّح بعضهم بأنه مستقل وحر ودون واجهة أو عنوان، وأنهم جاؤوا تلبية للنداء المقدس للوطن المغلوب على أمره، والتضحية بالنفس والنفيس من أجل عيونه للفكاك من التخبط والأزمة.
عشرون سنة قضّاها عبدالعزيز بلعيد طالبا على مقاعد الدراسة الجامعية، وهي كثيرة وممطّطة وتطرح العديد من علامات الاستفهام عن أسباب طول مكوثه في الجامعة. مكوث حطم الرقم القياسي الذي في العادة لا يتعدى 4 سنوات ثم تليها التخصصات على أكثر تقدير 5 أو 6 سنوات، هل الرجل لم يكن تلميذا مجتهدا أم أن النضال في صفوف الطلبة أنساه الدروس والفروض والامتحانات؟ وبالتالي كان يعيد السنة تلو السنة وهي تمر على رأسه مر السحاب، ومع ذلك نال شهادة في الطب من دون أن يمارسه، وغدا محامياً دون أن يزاول المحاماة أو أية وظيفة مرتبطة بالتخصص.
بين حزب وآخر
كان مهموما برصّ صفوف التنظيمات الطلابية وتجنيدها في المواعيد والمناسبات الوطنية والحزبية أيام الحزب الواحد العتيد “جبهة التحرير الوطني” وهو ما أهله ليكون عضوا بارزا ضمن لجنته المركزية لمدة طويلة أيضا وجنى من خلال هذه المواظبة الطويلة ثمارها في المستقبل، حيث عُيّن نائبا بالبرلمان الجزائري لعهدتين متتاليتين من سنة 1997 إلى غاية سنة 2007 وترأس خلالها عدة لجان برلمانية باسم الحزب الواحد طبعا.
تلك الخبرة في التنظيمات ونفوذه المريب والقاتم فيها، مكّناه من الدخول في صراعات الاستقطاب، أولا لصالح حزبه القديم جبهة التحرير الوطني الحبيب على قلبه الذي كونه وزجّه في ثنايا الإدراة والأجهزة وعلّمه سياسة الكولسة وكيفية اللعب بها، مستعملاً كل الطرق المتاحة لذلك. وثانيا لصالح حزبه المولود سنة 2012 من ضلع جبهة التحرير الوطني “المستقبل” بعد أن عاشت ساحة جبهة التحرير الوطني تصدعات وانشقاقات، وبرزت خلافات عميقة داخلها حول كعكة المصالح التي قفزت إلى أعلى مستوياتها مع جريان المال الغزير وكثرة المشاريع وانفتاح السوق.
تضاف إلى ذلك كله الحرب التي قادتها سرايا الحكم ضد الأمين العام السابق للحزب علي بن فليس الذي كان مدفوعا من تيار عسكري قوي للترشح ضد بوتفليقة للعهدة الثانية 2004، وانحياز بلعيد لابن منطقته “باتنة” بن فليس وهو منطق جهوي بارز ساد في مختلف مراحل حكم النظام الجزائري، الولاء لابن منطقتي، الأهل العشيرة والأصدقاء والخلان، بكفاءة أو بغيرها، المهم أن يكون السند والقوة والخلفية التي يعتمد عليها في الاستمرارية واستقرار المصالح. وهو ما أظهره بلعيد حينما أنشأ حزبه “المستقبل” حيث أتى بالأقربين منه ولاء وطاعة واصغاء، ورجال الأعمال النافذين وزعماء العروش القوية في المنطقة الشرقية للجزائر، ولم يتخل إطلاقا عمّن وقفوا معه في السراء والضراء وحين البأس، وسرّب وفرض رجاله في العديد من الجامعات والمؤسسات والهيئات ومواقع اقتصادية سيادية، في مقابل التزكيات والانتظام خلف الأقوى والأكثر نفعاً.
قبل ذلك كان بلعيد ابن زاويةٍ أسسها جدّه عبدالله بن شريف مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطريقة الصوفية الرحمانية. ما جعل من حفظ القرآن بالنسبة إليه واجباً أساسياً، والحضور القوي للتعليم الديني ومعارفه، الخلوة والاعتكاف، وخدمة المستضعفين، والأوراد، بالإضافة إلى تلبية نداء الوطن في المنشط والمكره.
ربما يكون ذلك العمل الأخير هو المحبّب الآن إلى قلبه أكثر من كل ما تستحفظه ذاكرته من تلك الواجبات، حيث لا يعرف عنه الالتزام بقواعد الطريقة ولا بمنهجها الصارم. والدليل كما يقول المتتبّعون الفترة العصيبة التي قضاها وهو على مقاعد الجامعة، وما يقال عن فترات توليه مناصب في التنظيمات من فساد وعبث واستهتار وعلاقات غامضة قال عنها خصومه إنها كانت لـ”المجون والعربدة”، وصرف للأموال العامة التي كان الحزب الواحد يغدقها على التنظيمات، دون رقيب ولا حسيب للإبقاء عليها عمياء صماء بكماء، ومنتفضة في الوقت المناسب المؤشر له من خلف الستار للتشويه أو لضرب خصم ما، أو افتعال معارك وهمية بيزنطية، أو الإلهاء بقضايا تافهة وعقيمة، أو شراء الذمم والضمائر والمقاعد بحسب الأهواء والهوى والمصالح والظروف.
حملة وردية من الصحراء
من الجنوب الغني والبعيد عن صخب المدن وتظاهراتها ومشاكساتها وثوراتها وتجمعاتها المنتفضة ضد كل شيء، جسّ بلعيد نبضه السريع للرئاسيات، وهناك على طريقة “ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين وعميد حكام العرب معمر القذافي” وفي تجمع تغزل بأهالي الجنوب “غزلا رئاسيا”، ووعدهم بجعل أهم محافظة “تمنراست” عاصمة للقارة الأفريقية تنبض بالغنى الفاحش ومعقلا للتجارة العالمية تدر عليها الخيرات والنعيم.
وهناك أيضا قطع بلعيد بلسان مبلبل كل شك ويقين، وبلغة العارف والسياسي المحنك، كما يقال، الذي يعرف كيف يتلاعب باللغة ويدير بوصلتها في الاتجاه الصحيح، ويرميها مثقلة بالدلالات، كشف عن موقفه بين أن يكون مواطنا عاديا يؤمن بالحراك أو مرشحا رأى أن الواجب الوطني المقدس حتم عليه التقدم للرئاسيات، وهو ينوي أن يكون رئيسا للتغيير من دون حراك. قال إن “الحراك أصبح مشكلة بعد أن كان حلا”. ردّد بلعيد ما يقال عن اختراقات حدثت للحراك الذي لم ينزل إليه إلا مرة أو مرتين وقوبل بالطرد والتصفير، وأوجد بالتالي لنفسه مبررا لما أقدم عليه في لحظة يعرف الشارع أن مثله مثل غيره من أركان النظام، ساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في ركوب الأمواج العاتية بعد أن تربّى في الجنات الواسعة للنظام. فكل الهيئات والتنظيمات التي وضع فيها رجله منذ أن كان يافعا كانت من صنيع النظام حزبا واحدا حاكما أوحد، أو تحت مظلة الرئيس السابق بوتفيلقة حاكما مطلقا،
وكلها سبحت وهللت وباركت ما كان يقوم به هذا الأخير طوال سنوات حكمه، وسكتت عن المظالم التي غذت الغضب الذي وصل للرقاب، وانفجر في 22 فبراير ولم يسكن حتى الآن.
أظهر بلعيد في مساره وخرجاته الإعلامية ذلك الشغف بتاريخ نضاله الطويل والعريض في كنف الدولة والنظام، والاعتراف بأفضال الرجال الذين قال إنهم يمثلون الوجه الحقيقي للمؤمنين بالبلاد، وتصفهم عادة المعارضة وجزء عريض من هؤلاء الذين هم اليوم في الشارع، بالديناصورات التقليدية الخشنة التي حكمت وحجرت البلاد وهمشت الكفاءات وقتلت أراوحهم، كأمثال يحياوي وشريف مساعدية وبن فليس وغيرهم.
تلك الأسماء التي يعدّدها بلعيد هي التي أسهمت في تربيته تربية قائمة على الفكر الواحد والنظرة الواحدة والرؤى الواحدة والأحلام الواحدة والعقيدة الواحدة والرغبة الواحدة والزعيم الواحد. وهو اليوم يقول إنه “مرشح الشعب”، فإذا انتخبه “الشاب والشيخ والعجوز والمرأة والشابة” فسيغيّر كل هذا في لمحة بصر خاطفة، مخاطبا الجميع من فروع مكاتبه أو من تجمعاته التي يحضرها في الغالب مناضلوه وبعض المواطنين الفضوليين، أو من إطلالاته الإعلامية المدروسة والتي لا يهدأ صوته الصاخب والعالي فيها، أو في بياناته التي تقرأ على مواقع التواصل الإجتماعي.
يردّد أنه أقدر من هؤلاء الرقاة على فك الطلاسم والحروز المغلقة وجلب السعادة وإقامة العدل ومحاربة الفساد والغش والمحسوبية والرشوة والمال السائب، ومنح فرص للشباب العاطل كي يذهبوا ببلدهم إلى المستقبل، تلك الكلمة السحرية التي سمى بها حزبه الفتيّ الصاعد والذي جرب معه السباق لانتخابات 2014 واحتل المتربة الثالثة، ما اعتبرته الأوساط المتابعة آنذاك مفاجأة وحصل على 3 بالمئة من الأصوات، وهي نسبة قد تعلي شأنه قليلا في استحقاق 2019 وتقيه شرور الهزيمة والخيبات، وتمحو ما يتداول عنه.
أرنب السباق
هذه المرة غاب بوتفليقة وغابت معه آلات التزوير والاصطفاف والضغط، وسجن المقرر الوحيد والآمر الفعلي وعرّاب وصانع الرؤساء في الخفاء رئيس جهاز المخابرات الجنرال توفيق، وغاب أيضا معه السعيد بوتفليقة صاحب الهواتف النقالة الضاغطة على المصائر والمستقبل. والأهم في رأيه أن المؤسسة العسكرية الجزائرية كان لها دوما رأيها في الانتخابات الرئاسية ككل دول العالم.
في سنة 2014 ظهر بلعيد متأكدا بأن الصندوق سيعلنه رئيسا للجزائر، إذ قال “سأكون يوم 18 أبريل المقبل رئيسا للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، بعد أن أخوض الدور الثاني منها ضد منافسي بوتفليقة”، وكعادة الذين غرّر بهم الجنرال توفيق وأوهمهم بمكانة ما تحت الشمس الساطعة للحكم والترؤس رفض حتى مجرّد التخمين حول ما سيفعل لو خرج من الصندوق رئيس آخر، فهو متيقّن أنه سيكون الرئيس وسيرى الجمع الغفير للجماهير العريضة ذلك بأمهات أعينهم، قيل آنذاك إنه كحالم آخر اسمه مولود حمروش، وثق في الكلمة السيف والمبدأ، وزينت في عيونه الإشارات ووضعت بين يديه لدرجة أن بصره لم يبصر سوى صورة واحدة؛ رئيس يلج العتبات المقدسة لمكتب الرئاسة، منتشيا، فرحا، جذلا بطعم الفوز الساحق والكاسح على منافسه بوتفليقة، ولكنه بضربة نفس الشمس التي تفيّئ للحظات ظلاله في الحلم، أفاق واكتشف أنه لم يكن سوى أرنب صغير في اليد المشتعبة والضخمة والسرية التي طوحت بأحلامه الكبيرة وطموحاته المتعددة الضاربة في عروق مساره منذ يفاعته إلى كهولته اليوم.
يحلو لبلعيد أن يتغنى ويرد بعنف أنه لم يكن يوما أرنبا لأي أحد فـ”مساري لا يسمح لي بذلك”، ويضفي على الأمر هالة من التقديس فهو، كما يقول، من منطقة الأوراس الأشم المشهور بنضاله إبان الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وبمجاهديه الكثر الذي ضحوا في سبيل استقلال الجزائر، وينتمي تحديدا إلى عائلة عريقة بقرية “حيدوسة” المجاهدة هي الأخرى، وفي هذا دلالة على اكتسابه الشرعية الرسمية الثورية غير المسوح بتاتا المساس بها والتي رافقت بناء النظام في الجزائر، الأمر الذي يعتقد أنه إنما يمنحه عنوانا عريضا لكي يكون أسدا ضاريا في السباق القادم بين أبناء عائلة متعددة لنظام واحد لتقرير مصير أجيال تسكن الشوارع كل جمعة وثلاثاء تريد فك الارتباط من سلاسل وقيود أية شرعية أبدية مهما كانت تفاصيلها وموضوعها وتاريخها وحضورها في الوعي أو في الحياة اليومية.