عباس الزهاوي يعمل بأدوات خاصة تمنحنا مساحات للتفسير والتأويل

كردستان العراق بطلة اللوحات بألوانها وأهلها وطبيعتها.
السبت 2024/01/06
قدرة عالية على إعادة تشكيل الواقع

تأثر عباس الزهاوي بطبيعة كردستان العراق، فنقلها إلينا بأسلوبه الخاص الذي يجمل لوحاته ويجعلها سردا بصريا للحياة اليومية وتغيرات الطبيعة، معتمدا على مزيج من الألوان الزاهية التي تستفز عين المتلقي ليستمتع بقراءة اللوحات وتأويلها.

من يعيش في كردستان العراق لا بد أن يعشق ناسها ومدنها وهواءها وطبيعتها، لا في عشق تفاصلها كلها فحسب، بل في تبيان كيفية استعادة تلك الكنوز، تلك الطبيعة بجمالها وجنانها وبصدى صوتها الحقيقي الأصيل، الصوت الذي يروي التاريخ وتحولاته، برائحته وآلامه المقدسة. نعم للطبيعة صوت كما لها الحواس الأخرى كلها.

من يعيش في ربوع كردستان العراق، بين جبالها وأنهارها، بين عشبها وأشجارها، لا بد أن يتحول إلى “مم” (روميو) وهي إلى “زين” (جولييت)، فكيف إذا كان هذا الأحد فنانا ولد وحبا وتنفس وركض فيها وبين جوانحها، كيف لا يكون عاشقا، متيما بها إلى درجة الذوبان والتلاشي.

بوكس

أتحدث هنا عن الفنان التشكيلي عباس محي الدين مصطفى الزهاوي سليل اللون والحب والجمال، ابن مدينة الخانقين، مدينة الفن وأقواسه القزحية، حيث ولد فيها عام 1956، درس في كلية التربية الفنية ببغداد وتخرج منها ليعمل مدرسا لهذه المادة في مدارس المدينة التي أطلقته للحياة، المدينة التي احتضنت صرخته الأولى ولما تزل، والتي بها أعلن عن حضوره إلى هذه الحياة لا كثيمة عامة كما لدى الجميع، ولا كتقليد وفق وجهة الكل بأجمعه، بل لتوسيع فضاءاته التي سيعوم فيها بأجنحة خفاقة لا تكل نحو اكتشاف فردانيته، وتوفير مداخل لتلك الفردانية بالنهوض نحو ثيمات وأفكار ستبرز له ولنا فيما بعد مرة بعد أخرى.

تبرز أفكار عباس الزهاوي على نحو متزايد الأهمية التي ستسبغها على العلاقات بين مفرداتها بكل وقائعها. أود هنا وفي هذا الضرب من السياق أن أشير من خلاله إلى إطلالات الفنان الواسعة على هذه الطبيعة الساحرة بخطوطها وملامحها وتحولاتها، مع إشارات إلى تلك اللحظات الخاصة في وجد اقتناصها وتدوينها باللون والشعور وكأنها حياة قائمة بذاتها، قائمة على أن الوقائع يجب أن تلتقط، لا بما تفهم فحسب بل بما تختزل من القدرات الجمالية التي تقتضي التركيز على إمكانية الانعتاق لديها.

الزهاوي هنا وفي هذا المجال يتحدى السطو الكثير الذي يتربص به من المحيط وعقباته، فيعمل جاهدا للتخلص منه، محايثا للظروف البيئية التي ينطوي عليها توليد الحياة الاجتماعية، وهذا ما يجعله يلقي الضوء شيئا فشيئا على كل تأملاته بصور طبيعية ترتبط فيما بينها بإدراكات وثيقة الصِّلة بالكيفية التي يرى بها العالم. وليس مصادفة أن يختار الفنان الطبيعة كأبجدية للغته التي ستصنع قدره ورسالته وستبرز مسؤوليته من الحرية والبقاء.

والحال أننا لم نبدأ بعد بفهم ما يشغل الزهاوي وما يشتغل عليه، فمازلنا نجاهد في التبصر إلى ما مفاده أن من الممكن أن نقبض على استغراقاته لحظة بلحظة وما بينها من قرابات بعيدة، أن نقبض على ما يسود عوالمه دون أن يعلن عنها، وفي هذا شيء يلفت الانتباه على الرغم مما تنطوي عليه من منغصات تعترض سبلنا إليها وإلى مواردها الغنية، وما من مسألة إلا وتحمل صفاتها في ذاتها، وما ترمي إليها من أغراض إلا وتحمل قيمها في قصديتها، فما عسى أن يفعله الزهاوي وله كل المقدرة على التعبير عنها؟

◙ طبيعة ساحرة بملامحها وتحولاتها
طبيعة ساحرة بملامحها وتحولاتها

ما يملكه هذا الفنان من مزايا يجعله يبسط أمامنا ما يكترث به خيالنا، فيتناول صورا على أنها مسألة مسلّم بها، لكنها بغض النظر عن أغراضها والتي لا تقبل إلا أن تكون فنا، وقدرته العالية على التعبير عنها، أقول يتناول صورا على أنها مسألة مسلم بها لكنها ليست آنية بل غارقة في دوائر يعجبنا منها التعبير عن نفسها وعن ذاتها، فنتساءل نحن المتأملين فيها، في مناظره، أقصد في لوحاته والتي نقبلها كتعبير مقصود لذاتها، ونقدرها كتجربة يمكن أن ننعتها بالخالصة أو الصرفة.

نتساءل، نحن المتأملين في هذه الدوائر بوصفها تجربة بطبيعتها لا يمكن أن تكون إلا نفسها، ماذا عن ماهيتها وماهية الأشياء التي تنبض بها والتي ترغب في إيصالها إلينا، لا كمجرد إيصال فقط، بل كتجربة مكتفية بذاتها تعبيرا وممارسة، تجربة تحمل قيمتها وقيمها في ذاتها، وإذا كان من السهل تصورها وعلى نحو أخص في الأمور التي ترجع إلى الحواس والعاطفة، فهي أبلغ بهاء وأوفر جمالا حين نفكر بتأويلاتها دون الاشتغال بالحكم عليها، بل بما ترمي إليه من مقاصد.

بمجرد إبانتها نجد أنفسنا في تتبعها وقراءتها بكل متعة ولذة، فهناك دائما ما تتركه في نفوسنا من أثر يتعمده الفنان عن قصد أو دون قصد وأقل ما يقال عنه بأنه مثمر وممتع، وهذا نابع مما نعده من تجربة ممتعة في ذاتها.

عباس الزهاوي يعيش في مدار خانقين، بل في مدار كردستان، وفي جولة سريعة بين عناوين أعماله (شناشيل، بساتين خانقين، جسر خانقين القديم، سوق الخضروات في السليمانية، بساتين بهرز ديالى، نهر الوند، منظر من خانقين القديمةً 1958، أبواب قديمة تراثية، سوق خانقين، ساحة كرندي في خانقين 1956، منظر من كردستان، إلخ) يبدو لنا حجم العشق الذي يعيشه الزهاوي للمكان، بتأكيد قدرته على التجاوز المتواصل والتنويع المستمر.

ولا شك أننا كقراء ومتلقين نستطيع أن نحدد المقولات العديدة والمتنوعة التي تحضر في عمله والتي لا تغيب عنا وعنه، ولا نختلف في شأنها، فهي مقولات مشتركة يقدمها بوعي وفعل، بابتكار بعيد عن التخبط ومحاكاة مع النفس، مقولات هي رهانه في التجريب، كسعيه إلى عرض تجارب مخصوصة عن الطبيعة، وإنتاج خطاب انطباعي جديد بتقنيات معهودة، وكذلك في تشظي السرد اللوني الذي يوظف لخدمة أبعاد نفسية، تاريخية حينا، وحينا تخدم أغراضا يمضي إليها بهدوء وترو، وهي من مقومات حداثته وقد تكون كافية لديه لإنشاء نص جمالي جديد.

هذا ما يجعل عباس الزهاوي يبدع مقومات إضافية لإنتاج وخلق ما يسمى جمالية الإبهار، وهي جمالية بؤرتها النص ذاته، وتتصل بكل من الفنان والمتلقي معا. وهكذا تكون لدينا مجموعة أشكال تدل عليها إشارات هي بطبعها غير محدودة المدى.

◙ إطلالات الزهاوي الواسعة على طبيعة كردستان العراق الساحرة
إطلالات الزهاوي الواسعة على طبيعة كردستان العراق الساحرة

لهذا لا بد لأعمال الزهاوي أن تضج بالحيوية حيث المدلول مبني على عدة أمور وليس على عين الكاميرا التي تلتقط فقط، فالإحساسات التي تجيش بها -وأقصد أعماله- تنقل إلى الأذهان أدق المشاعر، فهو يعتمد على قدرته على الابتكار والحماس والتي لا غنى عنها ما لم ترافقها قوة في التعبير. هذا ما يميز الزهاوي، وهذا ما دفعته إليه الطبيعة كي يكون مصورا يستجيب لألفاظها الخاصة تحت تأثير خاص في الخيال الذي لا يتوقف على قرائن الموضوع، بل يمضي إلى إيجاد نواة لذاته حولها تجتمع كل الإشعاعات التي يرتبط كل منها بالآخر ارتباطا لا يقبل إلا ما يشتمل على خاصيتي التأمل والإيحاء.

لقد رأينا أن الزهاوي يستطيع أن يبلغ غرضه كتعبير وتصوير وتوصيل بأكثر من تجربة، رغم أنه لا يرسم من الخارج فحسب، بل ما يملك عليه حسه وخياله ووهمه، فليست مصادفة أن يمنح الشكل أهمية فهو على دراية تامة بأنه المدخل إلى الجمال بجزيئاته التي يبلغ كل منها من الحسن مبلغا كبيرا.

نعم ليست مصادفة، فالشكل الجميل يفتح في النفس، وأقصد هنا نفس اللوحة ونفس الفنان ونفس متلقيه، طاقات جميلة تغوص فيها بعمق شديد وكأنك ماض في حلم طويل ولذيذ ولا تتمنى الاستيقاظ منه. وهو يميل كثيرًا إلى الانطباعية متأثرا بمفردات مدينته خانقين على نحو خاص والتراث الكردي بكل رونقه وجماله على نحو عام، وإن كان لديه الكثير من الأعمال التي تصنف في باب التجريد أو التعبير، أو مزاوجا بينهما.

فنان يبدع مقومات إضافية لخلق جمالية الإبهار، وهي جمالية بؤرتها النص، وتتصل بكل من الفنان والمتلقي معا

أردت هنا أن أقول إن عباس الزهاوي يحب البحث والتجديد، وله في كل باب أكثر من طرقة جميلة تترك أثره عليه، يحب التنوع الذي يأخذه في الطريق الحر، مستخدما مقدرته بأوسع معانيها، ينبئنا في الغالب بالشيء الذي يمكن أن نطمئن إليه، ويطمئن هو معنا. فهو يستطيع أن يعبر عما يرى، وكذلك عما في نفسه مؤثرا في نفوس متلقيه بقدر ما يستطيع أن يستوعبه، وبقدر ما يستطيع أن يستجيب له.

هو في الحقيقة يرجع إلى أكثر من ركن يسري في عمله والذي يوصله إلى ما هو أهم وفق تحقيق ما يجدي موجوداته لا ما يتسنى له إدراكه فحسب، بل ما يفرض عليه من إلهامات تدفعه إلى الخلق. هذا يعزز في حكمنا الذاتي البحث عن قيمة أثر من الآثار التي تثبت مهاراته الفنية التي يتمسك بها كثيرا، وهذا لا يتوقف على قيمة الحكم فقط، بل على أخلاقياته وذكائه وطبيعته، أي باختصار هو يعمل بأدوات خاصة تخدمنا كثيرا في التفسير والتأويل.

عباس الزهاوي هو مدير تجمع الفنانين التشكيليين في مدينة خانقين بكردستان العراق، وعضو اتحاد فناني كردستان – فرع خانقين، وعضو نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين.

 حصل على “درع الإبداع والتميز” إثر مشاركته في المهرجان الدولي للفنون “الوجه الآخر للفوضى المنتظمة” والذي أقيم في مدينة إسطنبول بتركيا في أغسطس 2019.

له أكثر من خمسة عشر معرضا فرديا، أولها كان في عام 2004 في ديالى، وكذلك له العشرات من المشاركات الجماعية في كردستان العراق، وداخل العراق وخارجه.

بوكس

لوحة

لوحة

 

13