"عايش لغناياتي".. حكاية لطفي بوشناق من طفل حالم إلى أحد رموز الأغنية التونسية

من المالوف إلى الإنشاد والفلكلور.. خمسون سنة جرب فيها الفنان أنماطا غنائية متنوعة.
السبت 2024/07/20
بوشناق يستعيد أهم محطات تجربته الفنية

خمسون سنة كانت كافية ليصنع فيها لطفي بوشناق هوية فنية لا تتكرر، ويصبح أحد رموز الأغنية التونسية والعربية. ولئن اختلف معه بعض المتابعين إلا أنهم لا ينكرون علو كعبه. وفي تقديمه افتتاح مهرجان قرطاج الدولي لعام 2024 أكد أن جمهوره يعيش بأغنياته منتظرا منه المزيد.

"ما تقليش علاش تغني… ممكن الغناية توصّلني لبعيد"، يبدو هذا البيت الغنائي -الذي هو من أحدث ما غنى الفنان التونسي لطفي بوشناق- خير تعبير يمكن أن يختصر تجربته الفنية التي بلغت عقدها الخامس، فمشوار بوشناق لم يكن سهلا؛ إذ بدأ بتحديات كثيرة أولها تحدي الأب، عبدالحميد، في أن يغني ابنه ويحلم بأن الغناء قد يوصله في المستقبل إلى أماكن بعيدة لم يكن ليحلم بها، وها هو بالفعل في مستقبل أحلامه الماضية وقد وصل إلى “البعيد” الذي جعله اليوم أحد أهم رموز الأغنية التونسية والعربية.

“عايش لغناياتي” هي الأغنية التي قيل فيها هذا البيت، وهي الأغنية التي عنون بها بوشناق عرضه الموسيقي الأحدث الذي افتتح فعاليات الدورة الـ58 من مهرجان قرطاج الدولي في تونس، أغنية أثبتت أنه فنان يعيش فعلا بأغنياته ولها، ويؤمن بالتجديد وخوض غمار التجربة في أنماط موسيقية متنوعة.

اختار الفنان لهذه الأغنية لحنا من أرشيف الموسيقار العالمي فريديرك شوبان، وكما كان شوبان رمزا للحقبة الرومانسية، يمنح دور البطولة في أعماله لآلة البيانو، كانت أغنية بوشناق الجديدة رومانسية، وهو الذي لم يخف خلال أدائها خوفه منها بالقول “هذه أغنية صعبة”، إذ ليس من السهل أن يؤدي أي فنان أغنية من ألحان عالمية.

هذا العرض أخرجه ابن الفنان المخرج الشاب عبدالحميد بوشناق، الذي له بصمة خاصة في مسيرة والده، جمعتهما في وقت سابق ضمن أحداث المسلسل التلفزيوني “النوبة” بجزئيه الأول والثاني، حيث نجح بوشناق الإبن في إعادة بوشناق الأب إلى عالم “النوب” الشعبية في تونس، وإلى سنوات التسعينات من القرن الماضي حين كانت الموسيقى الشعبية التونسية وفن المزود في أوجهما.

بوشناق أبحر في أنماط الموسيقى مستحضرا أهمّ العناوين التي أضاءت مسيرته منذ أواخر سبعينات القرن الماضي إلى اليوم

وفي عرض “عايش لغناياتي” شارك عبدالحميد -الذي يحاول أن يصنع لنفسه هوية مختلفة عن والده وشقيقه حمزة الذي يبدو أقرب إلى بوشناق الأب في حبه للموسيقى، فهو ذراع عبدالحميد اليمنى في كافة اختياراته الموسيقية لأعماله السينمائية والتلفزيونية- والده العزف على آلة الغيتار.

في 18 يناير 1954 رأى بوشناق النور، علا صوته بالبكاء ليصدح بقية حياته بأنغام وأشعار تونسية وعربية. بداية من لحظة الولادة هذه روى لنا بوشناق طوال ساعتين ونصف الساعة أهم محطات تجربته الفنية التي تجاوزت نصف قرن من الإبداع، استهلها بفيديو يروي قصة ولادته وبدايات حبه للفن، فيديو يمتن به الفنان لوالدته صوفيا التي كانت أول من وثق به ودعمه متحدية تسلط الأب عبدالحميد ورفضه أن يصبح ابنه مغنيا.

منذ أيام وقبل الحفل عاد بنا عبدالحميد الإبن، الذي أخذ اسم جده، إلى بعض التفاصيل المتعلقة ببدايات والده حيث كتب في تدوينة على فيسبوك “عام 1974، لطفي بوشناق عنده 20 سنة. وفاة والده عبدالحميد بوشناق مثلت صدمة، سكت إثرها لطفي بوشناق لأشهر ولم ينطق! بعد العلاج قرّر هذا الشاب أن يغنّى ويثبت لنفسه، للناس وربما لأب لم يكن موافقا على الفن ولكن، أنا كأب يكتب قصة أبيه أتمنى من كل قلبي أن يكون أبوه وجدي فخورين بابنه وابن ابنه! يوم افتتاح مهرجان قرطاج سنهدي إلى هذا الفنان حفلا أتمناه أجمل ما قدم! هدية للجمهور الوفي طيلة 50 سنة! ولكي لا ننسى أن الفنانين والعازفين والموسيقيين الوتريين التونسيين مدرسة! بقيادة المايسترو فادي بن عثمان. حمزة بوشناق الفنان الساحر يصاحبني في هذه الرحلة الفنية التاريخية الشخصية”.

حفل بمثابة أرشفة موسيقية
حفل بمثابة أرشفة موسيقية

إنها بالفعل رحلة تاريخية شخصية، جعلت هذه العائلة الفنية في مرمى اتهامات عديدة، بأن الأب يسعى لتوريث الفن لابنيه ويفرضهما في المحافل الفنية، لكن سواء اتفقت مع هذا الرأي أو عارضته، لا يمكن لتونسي أن ينكر أن بوشناق مدرسة موسيقية خاصة وعلامة تونسية فارقة، وابنيه وإن مهد لهما الطريق ودعمهما فهما يسيران في طرق مختلفة عن طريقه، ووحده المستقبل سيثبت نجاحهما أو فشلهما.

“رحلة صعبة”، هكذا وصفها لطفي بوشناق الذي “ثنى الركبة” كمال يقول المثل التونسي (أي اجتهد كثيرا) ليرسم خطوطا ويسير بخطوات موسيقية بعضها كان وليد الصدفة وبعضها الآخر كان مخططا له، تحركه قوة العزيمة ورهافة الحس والرغبة الجامحة في التميز والتفرد، كشفتها شهادات لأشهر الشعراء الذين تعاون معهم ومنهم الدكتور علي الورتاني والشاعر صلاح الدين بوزيان، وعززتها مقاطع مصورة وصورة أرشيفية عرضت لأول مرة، إلى جانب استذكار لرفاق رحلوا بعد أن أثروا في تجربته، منهم عازف القانون توفيق زغندة، وإعادة لأشهر الثنائيات الغنائية التي جمعته ذات يوم على خشبة مسرح قرطاج وظلت علامة فارقة في الأغنية العربية الحديثة وهي أغنية “العين الي ما تشوفكشي” التي قدمها مجددا رفقة المطربة اللبنانية ميشلين خليفة، أو كذلك أغنية “مي” التي أداها منذ عقود مع الطفلة آنذاك سنية مبارك، لتشاركه هذه المرة الغناء غالية ابنة الفنانة التونسية أسماء بن أحمد وكورال الأطفال للمطرب محمد الجبالي.

هي رحلة ممتعة راوح فيها المطرب التونسي بين جمال الحلفاوين وحلق الوادي، وعبق القدس والأندلس ومصر، عبر مسار متعرّج ومتناغم تنساب فيه الإيقاعات وتتفجر متزامنة ومتقاطعة مع مختلف أنغام المجموعات الموسيقية المشاركة.

أبحر بوشناق في أنماط الموسيقى التونسية والعربية والعالمية، مستحضرا أهمّ العناوين التي أضاءت مسيرته منذ أواخر سبعينات القرن الماضي إلى اليوم، حيث بدأها بأغنية “يا شاغلة بالي” للراحل علي الرياحي، وهي أول أغنية اشتهر بها بوشناق عندما غناها في برنامج “فن ومواهب” في ثمانينات القرن الماضي.

Thumbnail

ولم ينس بوشناق أن يعرج على انضمامه إلى فرقة الموسيقى التونسية في المدرسة الرشيدية وكيف صقلت موهبته ومنحته فرصة الغناء لأسماء تونسية كبيرة أمثال صليحة وعلي الرياحي، لكنه ركز أيضا على مراحل تطور أسلوبه، عارضا صورا وفيديوهات لأكثر الشخوص والأماكن تأثيرا في تجربته، ومنها مصر والحياة اليومية في مصر وملامح المجتمع المصري في العقود الماضية، فهو وإن لم يغادر تونس كغيره من الفنانين ويهتم كثيرا بالأغنية العربية على حساب الأغنية التونسية إلا أنه أجاد أنماطا غنائية كثيرة، وخاض التجربة فيها ونجح سواء في الأغنية الرومانسية أو الدينية أو الملتزمة، كلاسيكية كانت أم شعبية. وسمحت له قدرته على التنويع بين الموشحات والقصائد والمقامات الموسيقية والغناء الصوفي وحتى الأوبرالي، بأن يتفوق على الكثيرين من مجايليه خصوصا مع قدرته على الارتجال وامتلاكه صوتا رخيما في إلقائه للأشعار.

طوال مدة زمن العرض قدم بوشناق عددا من أهم أغنياته محاولا إرضاء أغلب الأذواق، متناسيا أغنيات أخرى مهمة لا يكفي الوقت لأدائها كلها، فأكثر من خمسة عقود لا يمكن اختصارها في ساعتين ونصف الساعة. وفي خطوة لم تحدث في حفلاته من قبل، قدم الابتهالات لأول مرة بصوته في حفل مباشر، تلك الابتهالات التي ترافق التونسيين طوال شهر رمضان كل عام، يفطرون على كلماتها التي تعدد أسماء الله الحسنى، وشكلت ذاكرة أجيال كثيرة.

من “نساية” و”هذه غناية ليهم” و”ريتك ما نعرف وين” و”انزاد النبي” و”كيف شبحت خيالك” وشارتي مسلسل “غادة” وفيلم “صيف حلق الوادي” قدم لطفي بوشناق عرضا موسيقيا تتكامل فيه جميع العناصر من إخراج وكوريغرافيا وأداء موسيقي ومؤثرات سمعية وبصرية، تجعلنا نقف على واحدة من الجمل الغنائية التي أداها في أغنية “أنا حبيت واتحبيت” حين قال “لكن يا خسارة اليوم أغانينا تغني وما تغنيش”، ونحن بالفعل اليوم أمام أغان تغني ولا تغني، تولد ليأفل نجمها بسرعة وليس من السهل أن تمنح الفنانين خمسين عاما من النجاح مثلما كانت أغنيات بوشناق.

14