عالم التفكير الجدي وليس الخواطر

تفرض عليك مسؤوليتك في مؤسسة متشعبة مثل "العرب" شيئين. الأول أن تكون مطّلعا على ما يفعله الآخرون. العمل الصحفي ينجح ويفشل بمقاييس المقارنة وليس على أساس اجتياز محطات امتحان مدرسي في كتاب “كيف تصنع صحيفة ناجحة”. عالم الصحافة “المدرسي” من مشاكل الصحافة في عالمنا العربي.
إذا كان البعض يشتكي من "إغلاق باب الاجتهاد" في الشأن الديني، فإن باب الاجتهاد أغلق في الكثير من المؤسسات الصحفية العربية. وضع محتوى ركيك على موقع أو سوشيال ميديا أو إنتاج عرض غرافيكس لهذا المحتوى لا يعني أن تطورا في الأدوات الإعلامية قد حدث طالما بقي يفتقد إلى ألمعية الفكرة وقوة تفسيرها.
المهمة الثانية التي أحرص على الاطلاع عليها هي المراسلات، سواء من كتاب محترفين أو مشاركين. فئة المحترفين أحب أن أطلق عليها تسمية “ما تبقى من كتاب محترفين”.
ورثت الصحافة العربية الحالية بعضا من كتّاب السبعينات والثمانينات لا يزالون ناشطين في الكتابة الصحفية. هؤلاء عددهم يقل كل سنة بحكم العمر والتقاعد والإحباط. بعض من الكتاب الجدد تجد لديه الفكرة لكنه عاجز عن تقديمها. يكون كاتبنا هنا هو وحظه: هل يجد من يقوم بإعادة تحرير النص -الأصح إعادة كتابته- لينشر كموضوع رأي أو تحقيق متماسك؟
المشاركون هم دليل القراءة المعتمد للمستوى الفكري والثقافي للمجتمعات العربية حاليا. هم مسبار استطلاع ما يحدث على الأرض. كلما ضعف مستوى هذه الكتابات عرفنا أن المشهد الثقافي في تراجع. فيما عدا استثناءات قليلة، فإن أغلب ما يصل هو خواطر لا علاقة لها بفكر أو رأي أو تحقيق أو صحافة.
إذا كان النتاج الأدبي العربي اليوم يغرق في كتب الإصدارات الذاتية التي تكتب عن تجارب بسيطة ومفتعلة، كما تشهد على ذلك الآلاف من الكتب في معارض الكتاب، فإن النتاج الفكري أو المنسوب إلى الرأي هو عبارة عن جمل بصياغات بسيطة وأفكار من عينة “أحبّ أمي في عيد الأم” أو “كيف تموت شهيدا دفاعا عن مذهبك”.
حين تجمع ما يصلك يوميا من “الكلام الفارغ” تصاب بالإحباط. كل ما كان يروى عن محدودية الإمكانيات وغلاء الكتب وضعف الترجمة، طوحت به القدرات الهائلة للإنترنت. ثمة وفرة استثنائية للمعارف متاحة مجانا، لكن كاتب الخواطر العربي مصر على الانزواء في ركن الفيديوهات البسيطة والضحك والعاطفيات التي نحتاج جميعا أن نودّعها يوم نودّع المراهقة.
نعيش اليوم أزمات مركبة ويبدو العالم مشغولا عنا بهمومه الكبرى. هذا عالم التفكير الجدي وليس عالم الخواطر. لو استبقنا وضعنا الفكري والحياتي مبكّرا لنشأت حركة فكرية حقيقية تحرك الراكد في عالمنا. من يأخذ أدبه وكتاباته وخواطره على محمل الجدّ سيصبح قادرا على أخذ مخاطر نقص الماء والغذاء والطاقة على محمل الجد أيضا.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية