ظافر يوسف "جازمان" تونسي يحلق في العالم الرحب

قيل عنه يوما ما "نحن نعرفه في مصر والمغرب أكثر مما نعرفه في بلده"، وهو أمر محزن أن يكون لتونس ابن مثل الفنان العالمي ظافر يوسف، الذي تعرفه أغلب مسارح العالم ولا يزال يتلمس خطواته على مسارح بلاده، يحبسه اختلافه في سجن الآخر الغريب الذي لا يفهمه أبناء جلدته ولا يقدم فنا "يشبههم" فيتركونه في "عليائه"، ويواصلون طريقهم.
قد يرى رجل الدين الله في التنزيل الحكيم، ويراه المزارع في الحقل، والطبيب في أسرار الجسد البشري، بينما يراه الفنان في الموسيقى، ويراه الصوفي في الحب المطلق للذات والآخر، والبحث المستمر عن “العشق الإلهي”. لم يخلق كل هذا وغيره باطلا، فالحياة كلها تفاصيل وأصوات تنادي كل منتبه لاكتشافها، كذلك استفزت الطبيعة الإنسان منذ عصور قديمة بخرير مياه وحفيف شجر، وقع الخطى ودوي الرعد. لم ينصت إليها ويقف مكتوف الأيادي وإنما استوحى منها آلات موسيقية تمتعه وتروح عنه مشقة الحياة ومآسيها.
وفي الموسيقى، هناك فنانون يعجبهم الصوت العالي، يسيرون خلف الضجيج والزحام وما يلفت انتباه الجميع، بينما ينتبه آخرون- وهم قلة – لمكامن الإبداع المخفية. كذلك هو الفنان “الجازمان” التونسي ظافر يوسف الذي ولج عالم موسيقى الجاز من أبواب المديح والذكر الصوفي، فخلق لنفسه هويته الفنية الخاصة التي فتحت له أبواب أكبر مسارح العالم لكنها قيدته داخل وطنه تونس.
على مسرح “دقة” الأثري، الذي لا يزال شامخا منذ تشييده بين سنة 166 و169 ميلادي، وعلى بعد خطوات من “معبد الكابيتول”، الذي كان مخصصا منذ قرون خلت لعبادة آلهة “الكابيتول”، وهم “جوبيتير” ملك الآلهة وإله السماء والبرق في الميثولوجيا الرومانية، و”جينون” و”مينارفا” آلهة العقل والحكمة، اختتم الفنان التونسي العالمي ظافر يوسف فعاليات الدورة السابعة والأربعين لمهرجان دقة الدولي الذي جاء هذا العام ببرمجة متنوعة لعدة عروض من أنماط موسيقية مختلفة، مثل المالوف والراب والجاز والأغنية التونسية الوترية وكذلك الأغنية الشعبية.
سفر الزمان والمكان
ماسكا عوده يغني، قدم “الجازمان” ظافر يوسف لجمهوره القادم من تونس وخارجها، رحلة في التاريخ، تاريخ الموسيقى وتاريخ المكان، وتاريخ الهوية والجذور وأصل الوجود، ليعزف مقطوعات من ألبوماته الشهيرة التي تستمد عناوينها من تكوينه الديني وطفولته التي كانت مشبعة بالأنغام الصوفية.
لا تخرج عناوين ألبوماته من الإيحاءات الدينية، منها “رقصة الدراويش” و“شارع المآذن”، و“أصوات المرايا” و“أبونواس رابسودي” الألبوم الذي استلهمه الفنان من سيرة أبي نواس الشاعر الذي عاش في القرن السابع واشتهر بقصائده عن النبيذ في مجتمع محافظ، والذي يعد أحد أبرز الشعراء العرب في العصر العباسي، وأشهرُ شعراء الشعر الخَمْري في تاريخ الأدب العربي كله.
جاء هذا الألبوم بعد أن خصص الفنان جزءا من تجربته الموسيقية لشعر الحلاج في ألبوم “نبوءة رقمية”، والذي كانت إحدى أغنياته في السابق لعنة على يوسف في العام 2010 كما كانت لعنة على الشاعر الصوفي الذي اتّهم بالزندقة وصُلب في أحد ميادين بغداد عام 922.
◙ أصوات ظافر يوسف ومجموعته تعيدنا للطبيعة الأم بأدغالها، وبعظمة الخلق التي تتجلى في تفاصيل الطبيعية
إنه لا يبالي برأي الآخر، طالما أنه يقدم موسيقى وأشعارا تحرك وجدانه، ويفهمها ذوو العقول، مثله مثل منصور الحلاج الذي كفره الجميع يوما وأصبح بعد ذلك رمزا للحب الإلهي، وفيما اعتبره الكثيرون مدعا للألوهية، يراه آخرون حالة تحرر من الأنا، والسماح لله بأن يتكلم من خلاله.
عزف يوسف بعوده وحنجرته، مصحوبا بستة عازفين وهو سابعهم، تبدو نغمات آلاتهم جميعها عودة نحو الجذور، نحو الطبيعة الأولى وأصواتها، فتأتي نغمات ونوتات منسجمة، تشد انتباه المستمع والمتفرج بأداء قوي وبتداخل لا متناه لآلة العود والرقص وحالة الوجد الصوفي. تذكر المستمع بمخاوفه، أحلامه واللحظة المنشودة.
لا يكتفي ظافر يوسف بالآلة وإنما يصبح صوته آلة من صنعه، كذلك عازف الناي الإفرنجي “الفلوت” كان أشبه بمن ينفخ في البوق أو الصور، يخرج من جوفه صوت عظيم يميل العباد إليه، يدعوهم إلى نفسه، على قمة “دقة” أو “توغا” كما رآها الأمازيغيون (أي الجبل الصخري).
أصوات ظافر يوسف ومجموعته تعيدنا إلى الطبيعة الأم بأدغالها، وبعظمة الخلق التي تتجلى في التفاصيل وفي أصوات المخلوقات الطبيعية. ولم ينس يوسف أن يوجه تحية للشاعر التونسي الصغير أولاد أحمد الذي شاركه في اختتام مهرجان قرطاج الدولي عام 2012، مناجاة الله، منذ أحد عشر عاما خلت، ليفترقا، أحدهما عاد إلى الله والآخر لا يزال يبحث عنه، يبحث عنه في قصيد يمس أعماق روحه وفي لحن يطوف به في الملكوت، يبحث عنه في خياله الخصب وفي وجوه الحاضرين، في نوتة تولد من حنجرته لتعيده إلى لحظة البعث الأولى حين كان يصرخ باكيا لا يدري هل يحب قدومه لعالم الأحياء أم هو يخشى خروجه حرا معافى من القرار المكين؟
تجربة لا تتكرر
لم يكن الفتى المراهق يعرف أنه سيصبح يوما فنانا شهيرا، أو هو ربما حلم بذلك، فجعل نفسه “جازمان” (فنان جاز) يؤلف الموسيقى ويرتجلها ويعود بها لنفسه وهويته. فمن 1980 و1988، غنى يوسف في حفلات الزفاف وكان له حضور في الإذاعات التونسية، لكنه مع بداية التسعينات غير وجهته نحو فيينا، حيث حصل على درجة علمية في دراسات الموسيقى وأدى حفلات موسيقية في النمسا وألمانيا وفرنسا، ثم بدأ يجوب العالم ويرفع صوته من على مسارحه.
ويطلق الفنان على الموسيقى التي يقدمها “الموسيقى الصوفية الإلكترونية” ويعتبرها محاولة منه لصياغة “جاز عربي”، والتي تشبه محاولات موسيقيين عرب آخرين منهم الفنان التونسي أنور إبراهم والفنان اللبناني ربيع أبوخليل.
وتتميز عروض الفنان ظافر يوسف على الخشبة بالتزامه بملامح موسيقى الجاز أو ما يطلق عليه “الجاز الحر”، أي بعزف مقطوعاته الموسيقية مع الارتجال، ويدخل ذلك في طبيعة موسيقى الجاز كفن ارتجالي يسعى خلاله الفنان والموسيقي إلى إمتاع الجمهور، ما يجعل المعزوفات تتخذ أشكالا مختلفة في كل عرض جديد بالرغم من أنها تحمل نفس العنوان ونفس اللحن والكلمات.
◙ الفنان يطلق على الموسيقى التي يقدمها “الموسيقى الصوفية الإلكترونية” ويعتبرها محاولة منه لصياغة “جاز عربي”
"بطل العود" كما يلقبه الإعلام الغربي، الذي نجح في إدخال آلة العود إلى عالم موسيقى الجاز، ولد في تونس لكنه تحرر من قيودها وهو ابن التاسعة عشرة، "دينه" الموسيقى، موسيقى لا تشبه ما يقدمها كل الموسيقيين من بني جلدته، اختلافه جعله منبوذا، يحط في تونس كالطير المهاجر، لا يبني عشا ليستقر وإنما ليرتاح قليلا ويعيد رحلته نحو الموسيقى والله وجمال الحياة.
لا يلقى يوسف احتفاء بقيمته وفنه رغم أنه يعد واحدا من أشهر الموسيقيين في العالم، خرج من أرض أبناؤها لا يدعمون المختلف، لا يقبلون المشاريع الجدية وخاصة المشاريع الموسيقية التي تنساق وراء اللحن ولا تولي اهتماما للكلمة إلا إن مست أعماق أرواحهم. هكذا هي أغلب الشعوب العربية، شعوب كلامية شعارها "ما لم تنطق ونفهمك لن ننصت إليك".
حفل ظافر يوسف كان درسا في الحب، حضره الكثير من المحبين، لله وللحياة وللإنسان، والقليل من الساخطين على الحياة والآخرين، عميت أبصارهم فانشغلوا بالآخر عن أنفسهم وبالدنيا عما سواها، يسيرون في الأرض ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ونسوا من كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض، وتشهد عليهم أعمدة دقة الأثرية الشاهقة، فهي تخبرهم في كل حركة ضوء والتفاتة نظر أن الحياة فانية وعلى المرء الالتفات لنفسه، لرحلته هو، لعمله هو، لسلوكه وقناعاته هو، وليس لما يفعله الآخر، وظافر يوسف خير مثال، فلو انشغل بالآخر لما قدم منجزا فنيا حمله على أجنحة العالمية، ولظل حبيس الحدود الضيقة.
إنه يقول لجمهوره كما قال صديقه الشاعر أولاد أحمد عام 1998 "ليس لي مشكلة.. ذاهب لأرى الله منفردا.. سأقول له يا حبيبي .. أريد مكانا عدا الأرض والنار والجنة المقفلة.. أبدا ليس لي مشكلة".