طوكيو تمضي قدما وتحتفي بالانتصار في عصر الانكسار

شعلة الأولمبياد التي يلتف العالم حولها كل أربع سنوات يجب ألاّ تنطفئ، وإن تأخرت هذه الدورة عاما كاملا بسبب جائحة كورونا في واحدة من الظروف النادرة التي تسببت في حجب الألعاب منذ أن تم إحياؤها عام 1896. علينا أن نمضي قدما، هكذا قرر البلد المضيف الذي اختار للدورة شعارا هو “المضي قدمًا” حتى في غياب الجماهير عن الملاعب.
الهيئة الأولمبية العالمية أضافت بعدا رمزيا لمقاومة وباء كورونا عبر إصرارها على إقامة الألعاب في الموعد المتفق عليه، للقول بأن الاحتفاء بالمنافسات الرياضية هو احتفاء بالحياة، وتمجيد لقدرة الإنسان على التحدي والانتصار، في مقاربة تخلّد ما بدأه الإغريق منذ مئات السنين على جبل آلهة الأولمب.
ولكي لا يرمى بالرياضيين والجمهور إلى التهلكة، حرصت اللجنة المنظمة على إجراءات صحية مشددة وسط غياب الجمهور الذي سيكتفي بالتشجيع والمشاهدة من خلال شاشات التلفزيون.. وهذا لن يُخلّ بالقاعدة الأساسية التي تشترط حضور الجمهور لدى باعثي هذه الاحتفالية في اليونان القديمة.
سفوح الأولمب
الدورات الأولمبية القديمة كانت بدورها لا تخلو من بعض التمييز الفئوي في أوساط المتنافسين والمتفرجين، لكنها عادت وعدلت من بعض مواثيقها في التاريخ الحديث إنصافا للمرأة ولصالح فئات عديدة مثل ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تقام لهم منافسات خاصة، وكذلك بالنسبة إلى اللاجئين، إذ سيكون الفريق الأولمبي للاجئين، المكون من لاجئين من عدة دول، “ثاني دولة” تدخل بعد اليونان، وفق اللوائح والتقاليد الأولمبية.
الموسيقى وبعض الفنون المشهدية الأخرى حاضرة في الألعاب الأولمبية تمشيا مع التقاليد الأولى التي لم تكن تقتصر على المنافسات الرياضية وحدها، حيث نص البروتوكول الأولمبي في مادته العاشرة على أنه في أثناء انعقاد الدورات الأولمبية تقام مسابقات ثقافية وفنية في الأدب، من شعر وقصة وغناء، وفي العمارة، والتصوير والنحت والحفر والموسيقى؛ وكلها تكون حول الألعاب الأولمبية.
وهكذا كُتب لهذا الحلم اليوناني القديم أن ينشأ على سفوح وادي الأولمب المقدس منذ عام 776 قبل الميلاد واستمرت هذه الدورات لمدة 1164 عاما ثم أمر الملك “تيودوروس الأول”، إمبراطور بيزنطة، بإلغائها.
التاريخ يذكر أن هرقل هو الذي أوجدها تعبيرا عن القوة والتفوق واستنادا إلى مقولة العقل السليم في الجسم السليم
محاولات عدة جرت لإحياء المباريات الأولمبية، بوصفها أكبر مهرجان رياضي في التاريخ البشري، لكنها تعثرت وكان عليها أن تنتظر إلى حدود نهايات القرن 19، وتحديدا خلال اجتماع كان منعقدا في جامعة السوربون بباريس، في نوفمبر عام 1892، أثار فيه البارون “بيير دي كوبرتان” موضوع التقاليد اليونانية القديمة واقترح إعادة الحياة إلى الدورات الأولمبية.
وافق الجميع على هذه الفكرة النبيلة الصادرة من رجل نبيل، والطامحة لإحياء الألعاب الأولمبية التي كانت تعقد اليونان فيها اتفاقيات للهدنة بين كل الدول المجاورة، وكذلك بين بلاد الداخل لمنع الحروب في أثناء انعقاد الدورة الأولمبية المنعقدة من آخر يونيو حتى منتصف أغسطس احتفالا بمواسم الجني والحصاد.
وقام “بيير دي كوبرتان” بعمل دعاية ضخمة في جميع بلدان العالم وعقد مؤتمرا آخر في جامعة السوربون في يونيو 1894 إلى أن نال موافقة الجميع وحماسهم. وأقيمت أول دورة أولمبية في العصر الحديث في مدينة أثينا عام 1896 ثم أقيمت الدورة بانتظام كل أربع سنوات، ونظمت بعد ذلك دورات أولمبية شتوية لألعاب الجليد ونظمت تلك الألعاب بلوائح وتعديلات جديدة.
اقتراب من عالم الآلهة
تضاربت أقوال المؤرخين حول منشئها التاريخي على وجه التحديد، ولكن التاريخ الرياضي يقول إن الإمبراطور “هرقل” هو الذي أوجدها تعبيرا عن القوة والتفوق واستنادا إلى مقولة “العقل السليم في الجسم السليم” التي ازدهرت في عصره، ووجدت مسوغاتها في الميثيولوجيا اليونانية التي تمجد الجسم البشري في قيمه الجمالية والفلسفية التائقة إلى الإنعتاق والاقتراب من عالم الآلهة.
إضفاء البعد الإنساني على الألعاب الأولمبية هو الذي ميزها وجعلها تنفرد بهذه المكانة المرموقة في العالم، وتكسب الدولة التي تنظمها قيمة مضافة بين الأمم. وهي كذلك مناسبة للتعريف بثقافة البلد المنظم وتسليط الضوء على تراثه المعماري مثل الملعب الذي يقام فيه أولمبياد هذا العام بحي شينجوكو بطوكيو. ويتميز الملعب المكشوف ذو الشكل البيضاوي بتصميم شبكي خشبي يستحضر الأنماط التقليدية التي نشاهدها في المعابد اليابانية. وقد تم تشييده من أشجار الصنوبر والأرز اليابانية ويهدف إلى الاندماج مع الحدائق المحيطة واستعادة الرابط الذي فقدته طوكيو مع الطبيعة كما يقول المهندسون اليابانيون.
وبالعودة إلى البعد الإنساني الذي يميز الألعاب الأولمبية ويحرص على أن يبقى بعيدا عن النزعات التسويقية والتجارية كما أراد لها الآباء المؤسسون في العصر الحديث، فإن لائحة الألعاب الأولمبية اشتملت على العديد من المبادئ الرياضية الهامة ومنها أن هذه الألعاب للهواة فقط وليست للمحترفين وتقام كل أربع سنوات وتحت أنسب الظروف بغرض التنافس بإخلاص ونزاهة سواء من حيث اللون أو الجنس أو الدين أو العقيدة أو السياسة.

بيير دي كوبرتان البارون الفرنسي الذي أعاد إحياء أكبر مهرجان رياضي
ورفعا لكل التباس أو مفاضلة وتمييز، فإن جميع الألعاب الشتوية تخضع لدورة خاصة بها وتجرى في العام نفسه الذي تقام فيه الدورة الأولمبية. وكذلك تستخدم الأرباح الناجمة عن إقامة المباريات – بعد خصم جميع المصـروفات ودفع مساهمة لخزينة اللجنة الأولمبية الدولية – في تحسين وتطوير الحركة الأولمبية الدولية والهواية الرياضية، وفي إطار اللجنة الأولمبية الخاصة بالدولة التي تقام بها الدورة.
وتختص اللجنة الأولمبية الدولية دون غيرها بإدارة الحركة الأولمبية الدولية وتحدد مقر انعقادها دون أي ضغوط من أي نوع من الأنواع. كما أن كل طلب لتنظيم دورة أولمبية يقدم من عمدة (محافظ) المدينة، وليس من الدولة أو أي سلطة أخرى بالمدينة، ويقدم الطلب للجنة الأولمبية الدولية، وشرف تنظيم الدورة يمنح للمدينة وليس للدولة.
جملة هذه المبادئ المدرجة في ميثاق الألعاب الأولمبية، يقسم على الالتزام بها رئيس فريق الدولة المضيفة نيابة عن كل المشاركين في كلمة يقول نصها “باسم جميع المتسابقين، أعد بأننا سوف نشترك في هذه الدورة الأولمبية، مراعين القواعد التي تحكمها وملتزمين بها، بالروح الرياضية الأصيلة، من أجل إعلاء شأن الرياضة وشرف فرقنا”.
كل هذه البروتوكولات المنصوص عليها كان البارون كوبرتان، باعث الألعاب الأولمبية من رماد التاريخ، قد ضبطها جيدا مضيفا عليها وضع العلم والشعار المتمثل في “الأعلى – الأسرع – الأقوى”، فالعلم أبيض اللون يحمل في وسطه خمس حلقات متداخلة وألوانها: الأزرق والأصفر والأسود والأخضـر والأحمر، كدليل على الصداقة والاتحاد بين القارات الخمس.
وما اشتراك جميع الرياضيين من كل بلاد العالم تحت علم واحد وفي قسم واحد، إلّا إقرار بمبدأ عام لرفع التمييز، والتنافس الرياضي السليم بين الجميع، بصـرف النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة أو السياسة.
كل هذه الدقة والشفافية والانضباط، تجعل من الألعاب الأولمبية “جمهورية فاضلة” و”يوتوبيا جديدة” استوحاها البارون الفرنسي الأنيق من أنفس ما خط في كتب التاريخ، وزاد عليها ـ من حيث لا يقصد ـ شعلة ظلت متقدة يتبادل حملها الرياضيون جيلا بعد جيل، حيث يرجع تاريخها إلى دورة عام 1928 في أمستردام.
وتقول قصة الشعلة التي لم تنطفئ رمزيتها إن مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، البارون بيير دي كوبرتان، كان مريضا ولا يستطيع الذهاب إلى الدورة فبعث برسالة إلى الرياضيين وجميع المشاركين حثهم فيها على أن يحتفظوا بشعلة الروح الأولمبية المجددة حية.
وأدخلت مراسم المشعل بعد ثماني سنوات في دورة برلين عام 1936، حيث يوقد المشعل الخاص من أشعة الشمس في أولمبيا باليونان. ويتابع حمله العداؤون فيجري كل منهم كيلومترا واحدا، حاملا المشعل إلى لحظة افتتاح الدورة.
وكثيرا ما يتعين أن يؤخذ المشعل على ظهر سفينة لعبور المحيط. وغالبا تظل شخصية العداء الذي يحظى بشـرف حمل المشعل داخل الإستاد الرياضي وإيقاد الشعلة سرا، وهو قد يكون بطلا رياضيا سابقا من أبطال الدولة المضيفة أو ناشئا صاعدا واعدا.
وتأخذ كل دورة أولمبية رقما، وإذا تعذر إقامة الدورة لأي سبب فإنها تلغى والدورة التالية تأخذ الرقم التالي وليس الرقم نفسه.
للسياسة نصيب
ولأن الألعاب الأولمبية هي هذا المزيج السحري بين الرياضة والعبادة، فإن قدماء الإغريق قد أحاطوها بهالة أسطورية أخاذة، حرص حتى الذين نفخوا فيها الروح من جديد، على الإبقاء على شيء من رمزيتها ابتداء من المسافة الزمنية التي تفصل بين دورة وأخرى وتحدد بأربع سنوات، وهي مدة اتفاقية السلام التي أقيمت بين مديني إيليس وبيزا، ووصولا إلى شكل المكافآت، والتي كانت قبل الميداليات في شكلها الحالي، إكليلا من أغصان زيتون كان قد زرع أشجارها هرقل خلف معبد أبيه الإله زيوس.

محمد القمودي أول من رفع اسم تونس خلال الأولمبياد قبل 50 عاما
ولم تشهد دورات الألعاب الأولمبية القديمة أي توقفات حتى أثناء الحرب الفارسية حيث أقيمت الدورة عام 480 قبل الميلاد. وفي العام 146 قبل الميلاد سيطر الرومان على اليونان وفرضوا سيطرتهم بالتالي على الدورات الأولمبية، ورغم ذلك ظلت هذه الدورات تقام كل أربع سنوات حتى العام 393 الميلادي قبل أن يلغيها الإمبراطور البيزنطي المسيحي تيودوروس.
أما في التاريخ الحديث فنادرا ما عكرت السياسة صفو الألعاب إلا فيما ندر ثم سرعان ما تعود المياه إلى مجاريها. فلقد شاركت المجر، على سبيل المثال، ببعثة مستقلة في أولى الدورات الأولمبية في العصر الحديث، وهي الدورة التي استضافتها العاصمة اليونانية أثينا عام 1896، رغم كون المجر آنذاك جزء من الإمبراطورية النمساوية المجرية. وبرر كوبرتان ذلك بقوله إن “السياسات الجغرافية الأولمبية تبطل سيادة الدولة”.
الحربان العالميتان كانت لهما نصيب في حرمان بعض الدول الخاسرة من المشاركة، فبعد انتهاء الأولى مُنع حلفاء الإمبراطورية النمساوية الخاسرة من أولمبياد أنتويرب البلجيكية، وبعد نهاية الحرب الثانية حُرمت دول المحور في الأمس من المشاركة في أولمبياد لندن 1948، علما أن الزعيم النازي أدولف هتلر، كان قد استغل أولمبياد برلين 1936 للدعاية السياسية.
وأثناء الحرب الباردة قادت الولايات المتحدة 42 دولة لمقاطعة أولمبياد موسكو 1980 بسبب الغزو السوفييتي لأفغانستان، بينما انقسمت دول الغرب حول هذا الشأن؛ حيث قررت بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى المشاركة في تلك الدورة.
تتويجات عربية

غادة شعاع أول امرأة عربية تحصل على ميدالية أولمبية عام 1984
لم يكن غريبا أن يرد الاتحاد السوفييتي ومعظم حلفائه على ذلك بمقاطعة أولمبياد لوس أنجلس 1984 وإن شاركت كل من رومانيا والصين، حيث وجدت الصين استقبالا مدهشا في أول مشاركة لها بالدورات الأولمبية.
وذهب العرب إلى أولمبياد طوكيو هذا العام وفي رصيدهم 108 ميداليات أولمبية، بينها 28 ذهبية، 7 منها لمصر، 6 منها للمغرب، 5 منها للجزائر، و4 لتونس، واثنين للبحرين، وذهبية واحدة لكل من الإمارات والكويت وسوريا والأردن.
ورغم قلتها، إلا أن لحظات صعود الأبطال العرب على منصات التتويج، مثلت لحظات بقيت عالقة في الأذهان لا تموت.
البداية كانت في دورة 1928 بالعاصمة الهولندية أمستردام، عندما حقق المصري سيد نصير ذهبية رفع الأثقال للوزن خفيف الثقيل، وحصد مواطنه مصطفى إبراهيم ذهبية المصارعة الرومانية لوزن خفيف الثقيل.
ويعتبر العداء محمد القمودي، واحد من اثنين، رفعا اسم تونس خلال الأولمبياد، وتبقى إنجازاته قبل 50 عاما خالدة للرياضة التونسية.
ودخل اسم السورية غادة شعاع التاريخ في دورة لوس أنجلس 1984 وأصبحت أول امرأة عربية تحصل على ميدالية أولمبية. وفي نفس الدورة حققت العداءة المغربية نوال المتوكل ذهبية سباق 400 متر حواجز.
وقد تكون لقطة العداء المغربي هشام الكروج، وهو يشير بالرقم اثنين، من أبرز اللحظات التاريخية العربية في الأولمبياد. وبعد فشله بالظفر بالذهبية في أولمبياد سيدني 2000، حقق الكروج ميداليتين ذهبيتين في مسافتي 1500 و5000 متر، في أثينا 2004.

أحمد حفناوي تونسي يمنح العرب أول ميدالياتهم الذهبية في أولمبياد طوكيو
السباح التونسي أسامة الملولي أصبح “ملك السباحة” العربية، بإحرازه ذهبية 1500 متر سباحة حرة، في أولمبياد بكين 2008. وعاد الملولي ليحقق ميدالية ذهبية أخرى، بالإضافة إلى برونزية في أولمبياد 2012 في لندن.
دول الخليج حققت عددا من الميداليات في الأولمبياد، وكانت الذهبية الأولى من نصيب الإمارات عام 2004 بدورة أثينا. وحصد أبطال الجزائر 5 ذهبيات في تاريخ الأولمبياد، 4 منها بألعاب القوى، وواحدة بالملاكمة.
وفي لحظة كتابة هذا المقال تصدرت تونس الدول العربية المشاركة بأولمبياد طوكيو برصيد ميداليتين، واحدة ذهبية وأخرى فضية، بفضل ذهبية السباح أحمد الحفناوي وفضية لاعب التايكوندو محمد خليل الجندوبي .
واحتل الأردن المركز الثاني عربيا بفضل ميداليته الفضية التي حصدها له صالح الشرباتي في التايكوندو.
وجاءت مصر في المركز الثالث عربيا بحصولها على ميداليتين برونزيتين عن طريق لاعبة التايكوندو هداية ملاك
في منافسات وزن تحت 67 كيلوغراما، وعن طريق اللاعب سيف عيسى الذي ضمن منافسات التايكوندو، فئة 80 كيلوغراما.
بينما احتلت الكويت المركز الرابع عربيا بفضل الميدالية البرونزية التي أحرزها عبدالله الرشيدي ضمن ألعاب الرماية.
وبغض النظر عن ترتيب الدول وحصاد الميداليات، المنتصر الأول في أولمبياد طوكيو هي الإرادة الإنسانية التي اتحدت في مواجهة وباء كورونا.