طقوس للفرح والحزن

واحدة من أشهر العبارات التي تترسخ في الذاكرة الجمعية العربية هي عبارة “آسف على الإزعاج”، إلى درجة أن هناك أعمالا درامية في السينما والتلفزيون اقتبست العبارة وجعلت منها عنوانا للعمل ككل، استغلالا لشهرتها وارتباطها بالعقل الشعبي العربي.
المؤسف أن العبارة لم يعد لها وجود تقريبا في الواقع في معظم بلادنا العربية، بعدما أصبح الإزعاج يمارس يوميا بإصرار يصل إلى حد “البجاحة”، دون أسف أو حتى قليل من الشعور بالخجل وإنما على العكس بات التنافس في الإزعاج شكلا من أشكال التباهي الاجتماعي، ووسيلة للتعبير عن مكانة “المزعج” الاجتماعية.
ربما لم يتسن لكثيرين منا التوقف لحظات ليسألوا أنفسهم عن سر ارتباط الإزعاج بالمناسبات الاجتماعية في الدول العربية، فنحن نعبر عن سعادتنا في الأفراح، بتسيير مواكب من السيارات والدراجات النارية في الشوارع المزدحمة، تسير ببطء وتتلوى بعرض الشارع لضمان تعطيل حركة السير تماما، مع تسابق السيارات في إطلاق نفيرها بصورة مكررة ومزعجة.
المفارقة أن الكثير من العرب يلجأون إلى الإزعاج في الحزن مثلما في الفرح، حيث يقيم ذوو المتوفى سرادقا يسد الشارع ليتلقوا فيه العزاء، ومن أجل استكمال مراسم الإزعاج ينصبون ميكروفونات ضخمة في أول الشارع ونهايته وربما في منتصفه أيضا، كي تنقل صوت المقرئ الذي يحيي الليلة.
قد تظن أن الموضوع بسيط ولا يستحق الجهد الذي يمكن بذله في البحث عن تفسيراته، لكن دعني أؤكد أنك مخطئ في ظنك، وأن ثقافة الضوضاء لا تعبر فقط عن سلوكيات غير سوية من البعض إنما هي أعمق من ذلك بكثير خصوصا في دلالاتها الاجتماعية.
وحسب الكاتب الأميركي براندون لا بيل صاحب كتاب “الأراضي الصوتية: ثقافة الصوت والحياة اليومية”، الضوضاء ليست ظاهرة فيزيائية فقط، بل هي فعل اجتماعي وممارسة سياسية تشكل علاقتنا بالمكان والزمن، مثلما تشكل علاقتنا بالآخر.
وفقا لهذا التفسير يرى الكاتب أن الضجيج هو لغة الفقير المهمّش أو الغاضب، بالتالي فمظاهر مثل نفير السيارات أو “الزفة الشعبية” أو نشر “ميكروفونات العزاء في الشارع” لا يجب أن ينظر إليها على أنها تخلف أو فوضى، وإنما هي تعويض عن غياب المكانة أو التمثيل الاجتماعي.
وهناك العديد من مشاهير الأدباء العرب الذين ربطوا بين المدن والأصوات، التي تستدعيها تلك المدن إلى سمعهم مثل المفكر إدوارد سعيد الذي قارن بين القدس وبيروت في كتابه “خارج المكان” فقال إن الأولى تشبه صلاة حزينة تقال همسًا.. بينما بيروت تصرخ بأصواتها المختلطة كأنها لا تملك وقتًا للصمت.
كما وصف الأديب المصري الراحل جمال الغيطاني القاهرة في رواياته مثل “وقائع حارة الزعفراني” أو “التجليات” بأنها مدينة “تتكلم”، وتمتلك صوتًا صوفيًا مشوشًا يشبه زخم الذاكرة والخراب والأمل، سواء كان ذلك صوت ضوضاء الباعة أو المذياع أو حتى صوت احتكاك الأحذية بالأزقة.
وفي تحليل سوسيولوجي صدر عن جامعة القاهرة في عام 2008 حول السلوك الجمعي في المناسبات الدينية والاجتماعية في الأحياء الشعبية وجد أن الضوضاء جزء لا يتجزأ من طقوس الفرح والحزن في تلك الأحياء، لكنها تتجاوز الرغبة في الإزعاج لتعكس نوعا من التنافس الاجتماعي غير المعلن بين العائلات.