طفل واحد لكل أسرة.. الأزمة الاقتصادية تتحكم في سياسة الإنجاب لدى التونسيين

أثرت الأزمتان الاقتصادية والاجتماعية اللتان يعيشهما التونسيون منذ حوالي 10 سنوات على سياسة الإنجاب لديهم وأصبح جل الأزواج يكتفون بإنجاب طفل واحد عوض طفلين أو ثلاثة كما تمليه سياسة تحديد النسل. ويرى خبراء علم الاجتماع أنه بسبب تنوع المصاريف وتطور نسق الحياة وأشكالها وظهور مجالات جديدة للإنفاق العائلي احتاج الأزواج في كثير من الحالات إلى الاقتصار على إنجاب طفل وحيد.
تونس - لم تتردد الإعلامية مفيدة الشرقي ولو للحظة في تنفيذ رغبة حماتها التي نصحتها بإنجاب طفل واحد حتى لا ترهق نفسها وزوجها في المصاريف في حال أنجبت طفلين أو ثلاثة.
ورغم أن الأسرة ميسورة الحال حيث تمتلك منزلا وسيارة وراتبين محترمين إلا أن الأزمة التي تمر بها البلاد، منذ حوالي عقد من الزمن، جعلت الزوجين يتخذان قرارا حاسما في مسألة الإنجاب.
وقالت الشرقي القاطنة بتونس العاصمة والعاملة بجريدة الصحافة (حكومية) لـ"العرب"، إن الاكتفاء بطفل واحد يعد قرارا صائبا من كل النواحي فأطفال اليوم مكلفون وطلباتهم لا تنتهي، إضافة إلى أن غلاء المعيشة يجعل من الصعب توفير كل الضروريات لطفلين أو أكثر فحتما لن يستطيع الآباء توفير كل الضروريات لأسرة بها أكثر من طفل واحد.
وتحرص الشرقي على الاعتناء بابنها عناية خاصة والاستجابة لطلباته حيث تصطحبه للخروج والتنزه من حين لآخر كما أنها تودعه بروضة أطفال خاصة بحي راق وتضمن له كل وسائل العيش الكريم.
وأفادت سعيدة بن منصور عاملة بمصنع بمحافظة صفاقس (جنوب) أنها اكتفت منذ زواجها بأن تنجب طفلا واحدا وكان ذلك قرارها الشخصي والفردي، والذي لم يستطع زوجها أن يثنيها عنه، لأن وضعهما المادي لم يكن جيدا ولن يسمح لهما بتربية أكثر من طفل واحد، على حد قولها، فثورة 2011 يناير أفقدت زوجها عمله وأصبح لا يمتلك راتبا قارا، كما اضطرت هي للبقاء بالمنزل للعناية بطفلهما لأنها لا تمتلك المال الكافي لتركه في روضة أطفال.
وقالت بن منصور لـ"العرب" "كنت أتوقع أن تستمر أوضاع البلاد في التراجع وألا تتحسن في وقت وجيز لذلك فكرت في ألا أنجب أكثر من طفل حتى لا نعيش الفاقة". وأضافت أنها تعرف أزواجا قرروا عدم الإنجاب حتى لا يقعوا في مشاكل مادية خصوصا وأن جائحة كورونا أثرت على وظائف عدد كبير منهم يعمل بالقطاع الخاص.
وتتبنى تونس منذ أكثر من 60 عاما سياسة تحديد النسل، التي تشجع على الاكتفاء بثلاثة أطفال كحد أقصى وتوفر للنساء تسهيلات في الوصول لوسائل منع الحمل. لكن يبدو أن الظروف المعيشية أقنعت الأزواج الشبان بأكثر من ذلك، إذ يكتفي هؤلاء بشكل متزايد بإنجاب طفل واحد، أو طفلين على الأكثر، رغبة في توفير ظروف حياة أفضل لأطفالهم.
ووفق بيانات معهد الإحصاء الحكومي، فإن نسبة الخصوبة انخفضت بشكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، وصولا إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013، وتعد المباعدة بين الولادات وتأخر سن الزواج من بين أبرز المؤشرات في هذا السياق.
وقال زهير العزعوزي الباحث في علم الاجتماع إن تدهور الأوضاع الاقتصادية بعد ثورة 2011 أثر بشكل عام على كل المجالات بما في ذلك السياسة الإنجابية، مشيرا إلى أن نسبة الإنجاب تراجعت في السنوات الأخيرة وذلك مرتبط، حسب رأيه، بالأوضاع الاجتماعية التي يعيشها الشباب كالبطالة والفقر و"هو شباب في عمر الزواج وسن الخصوبة".
وأضاف الباحث في علم الاجتماع في تصريح لـ"العرب" أن الشركاء الذين تزوجوا في الـ15 عاما الأخيرة خططوا لإنجاب طفل أو طفلين لا أكثر، وذلك جراء تكلفة الإنجاب المرتفعة جدا.
وأشار العزعوزي إلى أن عمليات الولادة تطورت وارتفعت كلفتها، مؤكدا أن 80 في المئة من عمليات الولادة تكون قيصرية. ولفت إلى أن الطفل منذ ولادته حتى سن الثلاثة أعوام يتطلب مصاريف باهظة ما يجعل والديه غير قادرين على إنجاب طفل آخر في تلك الفترة، وهو ما يباعد بين فترات الحمل ويقلل من فرص الإنجاب.
وأوضح أن المتغير المتمثل في المواد المالية متغير رئيسي في إقناع الزوجين بتغيير معتقداتهما حول ثقافة الإنجاب.
وقال الدكتور الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة إن الأسرة في تونس شأنها في ذلك شأن الأسرة في العالم العربي الإسلامي كانت كثيرة العدد بالنظر إلى تعدد الزوجات وانتشار ظاهرة التسري بأكثر من امرأة. وكانت الحياة بسيطة والنظام الغذاء يتماشى مع الإنتاج العائلي.
وأضاف في تصريح لـ"العرب" أن تركيبة الأسرة التونسية تغيرت بعد صدور مجلة الأحوال الشخصية ومنع تعدد الزوجات الأمر الذي جعل معدل الولادة للمرأة الواحدة يتراوح بين ستة وثمانية أفراد إلى حدود العقد السابع من القرن الماضي.. وقد عمل برنامج التنظيم العائلي في تونس على التحكم في النمو الديموغرافي للسكان تجنبا لظاهرة الانفجار السكاني وانعكاساته السلبية في مجال رعاية الدولة لمواطنيها، ما جعل معدل الولادة ينحصر في حدود طفلين أو ثلاثة في المجمل.
◙ الظروف المعيشية أقنعت الأزواج الشبان بأكثر من ذلك، إذ يكتفي هؤلاء بشكل متزايد بإنجاب طفل واحد أو طفلين على الأكثر
وقال بن منصور "لئن نجح برنامج التنظيم العائلي في أداء رسالته في صفوف آبائنا فإنه بات صفحة مطوية لا يعرفها أزواج اليوم.. فبسبب تنوع المصاريف وتطور نسق الحياة وأشكالها وظهور مجالات جديدة للإنفاق العائلي احتاج الأزواج في كثير من الحالات إلى الاقتصار على إنجاب طفل وحيد مراعاة للظروف المادية للزوج ثم ضمانا لمستوى عيش لائق لطفلهما ولهما في الوقت نفسه".
وقد انضافت إلى قائمة المصاريف والمواد الاستهلاكية الأكلات الخفيفة وفواتير الإنترنت وشركات الاتصال ومتطلبات الدراسة في ظل انتشار التعليم الخاص والدروس الخصوصية وارتفاع أسعار خدمات النقل والصحة والكهرباء والغاز ومياه الشرب وكل ألوان المعيشة.
وأثرت الضغوط المعيشية المتزايدة ومتطلبات المجتمع الجديدة على قرار الإنجاب لدى الأسر، فاللجوء إلى تقليص الإنجاب، أو التباعد بين الولادات، ظواهر تعيشها كل المجتمعات التي تمر بصعوبات معيشية، لاسيما إذا اقترن ذلك بمستويات جيدة من الوعي والتعليم.
وكشفت دراسة تونسية أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية اتساع نسبة الفقر في تونس، وتآكل الطبقة المتوسطة في البلاد بعد تداعيات تفشي وباء كورونا.
واتسعت قاعدة الفقر في تونس لتشمل 4 ملايين تونسي، أي نحو ثلث عدد السكان. كما أن تكاليف رعاية الأطفال شهدت في السنوات الأخيرة ارتفاعا كبيرا مع توجه عدد متزايد من العائلات إلى التعليم الخاص نتيجة تآكل الثقة في المدرسة العمومية.
وحول الاستثناءات التي يمكن ملاحظتها في بعض الأسر وهي إنجابها لأربعة أو خمسة أطفال قال العزعوزي إن تلك الأسر تنتمي إلى طبقة غير مثقفة أو غير متعلمة، وتعتمد على الموارد المالية للآباء، مؤكدا أن تلك الأسر تعتبر الأطفال سندا لها عند الكبر ومورد رزق في المستقبل يعينها عند الكبر لذلك لا تتردد في الإنجاب رغم صعوبة الظروف الاجتماعية.