طاهر رحيم سفير العرب إلى العالمية من بوابة غوانتانامو

ممثل من الطراز الرفيع النادر، وواحد من النجوم الذين تكفي مشاهدتهم لمرة واحدة كي يرسخوا في الذهن بسبب مواهبهم الخاصة، اخترق قلوب الملايين من المشاهدين حول العالم، مع أن رصيده الفني مقتصر على بعض الأدوار ما بين السينما والتلفزيون، وآخرها دوره في المسلسل المحدود “الثعبان” المتوفر على منصة نتفليكس العالمية، طاهر رحيم الفرنسي الجنسية ذو الأصول العربية الذي ولد عام 1981 في مدينة بلفور الفرنسية، وسط عائلة ميسورة الحال تنحدر من مدينة وهران الجزائرية.
طفولة رحيم لم تكن صعبة، كما هو حال نجوم العالم، بل على العكس، كان كل شيء يريده مجاباً، ما جعله يبحث عن الجديد والغريب ليبعد الملل عن حياته، وخصوصا في مرحلة مراهقته التي اكتشف فيها حبه للفن والتمثيل تحديدا، وأصبح يذهب بانتظام إلى دور السينما، ويجتمع رفقة أصحابه في المنزل لمشاهدة الأفلام.
ظل يعيش في ذلك العالم إلى أن قرر مصارحة أهله بشغفه بالتمثيل ونيته دراسته بشكل أكاديمي. كان متخوفا حينها، لكن موافقة أهله جعلته يتقدّم بقوة نحو هدفه، فالتحق بجامعة مونبلييه، ثم شد الرحال إلى العاصمة باريس باحثاً عن عمل.
مشوار البداية بالنسبة إلى هذا الشاب الجزائري لم يكن سهلاً، كان يجول يومياً ويطرق أبواب شركات الانتاج بحثاً عن دور يناسبه، لم يكن يرضى بالأدوار الصغيرة التي لا تقدّم ولا تؤخر، وهذا ما أوضحه في مقابلة تلفزيونية قائلاً “كنت متأكداً أني إذا بدأت صغيراً لن أكبر فنياً بسهولة، لذلك تعبت كثيراً لأجد دوراً يناسب ما أحلم به، لم أرض بتلك الأدوار الصغيرة التي تشبه ما يسمى بالكومبارس، رأيت أن تعبي بالبحث والانتظار أفضل من تعبي بتأدية الأدوار الصغيرة”.
طموح غير محدود
أول فرصة حقيقية حصل عليها رحيم كانت أداؤه لمشاهد تمثيلية في فيلم وثائقي عام 2005 لم يلق أيّ نجاح، وهذا ما جعل رحيم يتخذ التأني والحكمة سبيلاً، ويبحث عن دور بطولة يليق بطموحاته الكبيرة، انتظر أربع سنوات حتى سنحت له الفرصة باجتياز تجارب الأداء لفيلم روائي طويل يدعى “نبي”، حيث اختاره المخرج الفرنسي المعروف جاك أوديارد، الذي يحمل في جعبته الكثير من الأفلام الناجحة مثل “اقرأ شفتي” و“أخوات ليه فرير” وغيرها من الأفلام.
فيلم “نبي” يروي قصة شخصية “مالك” الشاب السجين وغير المتعلم الذي تحول من انطوائي خجول إلى مجرم عديم الرحمة. وقد جاء أداء رحيم في الفيلم مبهراً وعميقاً وبسببه بات رحيم محط اهتمام الوسط الفني.
نال الفيلم العديد من الجوائز العالمية منها الجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي، وأيضا 9 جوائز “سيزر” منها جائزة أفضل ممثل صاعد التي نالها رحيم، كما تم ترشيحه لنيل جائزة الأوسكار.
مع كل النجاح الذي ناله من أول دور بطولة له، كان رحيم يحاول جاهداً ألاّ تفسده الأضواء، بل على العكس انتهج الهدوء بالعمل، يقول عن تلك الأيام “لم أرد أن أتباهى بالنجاح أو أن أتغير، عملت على ذلك وانطويت على ذاتي وابتعدت عن الإعلام، أنا على يقين أن الوقت هو من سوف يكسبنا الخبرة لنكون قادرين على اختيار ما يناسبنا من حيث السيناريو والانتاج وغيرها من أساسيات نجاح أي فيلم”. وهكذا حصد الممثل الشاب حينها إعجاب النقاد ووجه له الكثيرون مديحاً استثنائياً، ومنهم الناقد الفرنسي مارك كيرمود الذي كتب قائلاً “الشهرة والثروة تنتظران هذا الممثل القدير الشاب”.
إرهابي سلفاً
لكن حدث ما لا يتمناه كل ممثل من أصول عربية، حيث أصبحت السيناريوهات ترده تباعاً عارضة عليه أداء أدوار شخصيات إرهابية، وعن هذا تحدث رحيم في مقابلة صحافية “اعتقدت أن الخيال سيكون أكبر عند بعض المخرجين والكتاب، حتى هنا في فرنسا، لكن الأمر لم يكن مختلفاً، لا أريد الاستمرار بمشاهدة الصورة ذاتها التي اعتدنا مشاهدتها عن شعوب الشرق الأوسط، أريد إنتاج أفلام أرغب في مشاهدتها”.
دوره في فيلم “النسر” للمخرج كيفين ماكدونالد كان قوياً للغاية، وهناك دور مميز لعبه وحاز على إعجاب الجمهور في فيلم المخرج الإيراني أصغر فرهادي حيث أدى شخصية ”سيمريف“، كما شارك في فيلم للمخرجة ريبيكا زلوتوفسكي بعنوان “غراند سنترال“. في كل عام كان يحظى بدور سينمائي مهم، مثل دوره الرئيسي في فيلم” القطع” للمخرج فاتح آكين.
استطاع الوقوف أمام كل من النجوم، مثل روني مارا وخواكين فينيكس في فيلم “مريم المجدلية” للمخرج غارث ديڤيس. وأخيراً أمام جودي فوستر في فيلم ”الموريتاني“ الذي تردّد رحيم عندما عُرض عليه، وخصوصا عندما قرأ كلمة غوانتانامو، فيقول عن ذلك في مقابلة مع صحيفة الإندبندنت البريطانية “اعتقدت أنه قد يكون أحد تلك الأدوار النمطية التي عرضت عليّ مراراً من قبل هوليوود طوال السنوات العشر الماضية وأنا لم أشأ أن أكون جزءاً من تلك الأفلام”.
ولكن الشخصية التي جسدها رحيم في الفيلم كانت مختلفة تماما، هي حقيقية ونالت الظلم الكبير تحت عباءة الإرهاب، وهي شخصية محمدو ولد الصلاحي، الذي أدين باتهامات دفع ثمنها 14 سنة من دون محاكمة، قضاها في خليج غوانتانامو ذلك المقر الشهير الذي يحتجز فيه الجيش الأميركي مقاتلين متهمين بانتمائهم إلى تنظيم القاعدة، وهناك تعرض الموريتاني محمدو للتعذيب على يد جنود أميركيين.
يظهر محمدو في الفيلم كشخصية رقيقة رائعة لم تفقده سنوات الظلم الرهيب الذي وقع عليه إنسانيته، بقي عاقلاً يقرأ ويتعلم كلّ يوم يمر عليه في المعتقل وهو مؤمن بأنه سوف يكون حراً في يوم من الأيام. و يذكر رحيم أنها المرة الأولى التي رأى فيها فيلماً هوليوودياً محوره شخصية مسلم متعاطفة وحساسة وجاء ذلك كي يمنحه الرضا بعد مجموعة أدوار عرضت عليه وسببت له نفوراً.
حقق رحيم نجاحاً معنوياً أيضاً، بمشاركة فوستر التي جسدت دور المحامية التي تلقفت ملف القضية وحاربت لكي تثبت براءة محمدو وعملت لسنوات دون ملل حتى بعد قرار المحكمة ببراءته، حيث تم التحفظ على الموريتاني لثلاث سنوات في المعتقل، ويذكر أن الفيلم يستند على كتاب مذكرات محمدو الذي نشره عام 2015 وبيعت منه الملايين من النسخ حول العالم، وترجم إلى العديد من اللغات.
من يشاهد “الموريتاني” يلاحظ أن رحيم يمتلك الكثير من الخبرة، فتشعر أنك أمام ممثل قام بأدوار عديدة ومرت عليه سنوات طويلة حتى أصبح يمتلك كل تلك المهارة في تقمص شخصية حقيقية تعيش بيننا، رغم اختلاف الشكل، وخصوصا لون البشرة، من يصدّق أن رحيم طلب أن يجري تقييده بالسلاسل لساعات، وكذلك طلب
غمره بالماء أيضاً، بهدف الإحساس بما يخلّفه التعذيب وفق أساليب الأميركيين في معتقل غوانتانامو، ليتمكن من أداء الدور بشكل حقيقي حسب قوله وهو يصف تلك اللحظات بالقول “احتراماً لمحمدو والجمهور، كان عليّ الاقتراب قدر المستطاع من حالته، لأتمكن من أداء دوره بطريقة غير مصطنعة، في لحظة من اللحظات بدا الأمر كأنه تجربة أمرّ بها أكثر من كونه أداءً وعرضاً، وصلت إلى غاية الإنهاك، ودخلت في حمية غذائية لأكون ضئيل الجسد، وقد أدى التعامل معي على هذا النحو إلى تفجّر كثيف في عواطفي التي لم أتمكن في الحقيقة من التحكم بها، لذا عمدت إلى السير خلفها”.
وحقق الفيلم المنتج في العام الحالي نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ونجاحاً على مستوى المهرجانات أيضاً، حيث تم ترشيح كل من رحيم وفوستر لجائزة “غولدن غلوب”، وقد فازت الأخيرة بها، والمستغرب في الأمر أن الفيلم لم يتم ترشيحه لجوائز الأوسكار رغم نيله إعجاب الكثير من النقاد.
يصف رحيم أجواء لقائه الأول مع الموريتاني محمدو بالقول “لقد فوجئت وذهلت بقدرته على مسامحة الناس، لم يشعر بالضغينة إثر محنته المرعبة، وسألته إن كان ثمة غضب يعتمل في مكان ما داخله، حتى لو كان غضبا ضئيلا، فرد محمدو: لا كنت غاضباً في ذلك الوقت في المعتقل، قبل أن أدرك أنه حين يسامح المرء الناس الذين يؤذونه، فسوف يحرّر عقله”.
المجرم من جديد

يصادف أن رحيم قدّم في العام الحالي شخصية حقيقية أخرى، لكنها في وادٍ بعيد جداً عن طبيعة شخصية الصلاحي، وهي “تشارلز سوبراج” في المسلسل الدرامي المحدود “الثعبان”، المجرم السارق الذي أدين وزج به في السجن لسنوات عديدة.
أدى رحيم الدور بحرفية عالية، فتراه يتعامل مع الشخصيات الأخرى ببرودة، وكأنه وحش مفترس يترصد طريدته، في مقابلة تلفزيونية يقول رحيم إنه لم يستلهم كثيرا من الشخصية الحقيقية بل ذهب أكثر من الخيال و استلهم من أفعى الكوبرا العديد من أنماط الشخصية، وعن ذلك يشرح قائلاً “فكرت في روبرت دي نيرو في فيلم ‘سائق التاكسي’، حين اختار السلطعون كي يستلهم تصرفاته منه، لذا عمد دائماً إلى المشي في الهوامش عندما يقارب الناس، وأنا رحت أفكر أنه عليّ أن أجد حيواني الخاص وبالطبع فكرت في الثعبان”.
مسلسل “الثعبان” ينال حالياً انتشاراً كبيراً، وهو يحتل في الكثير من الدول المختلفة المراتب الأولى للعروض الأكثر مشاهدة، كما أنه نال تقييما عاليا في مواقع التصويت من قبل النقاد والجمهور أيضاً.
يصعد رحيم بقوة إلى أعلى درجات سلم الشهرة والتألق في هوليوود، ولكنه يبقى، وهذا لا يخفى على من يشاهد أداءه بتدقيق، يتكئ على أصالة في هويته وذاته، نادراً ما حملها سفراء الفن العربي إلى العالم.