طاهر الزهراني: الرواية فن التفاصيل الصغيرة

في روايته “أطفال السبيل” يلجأ الروائي السعودي إلى التفاصيل اليومية الغارقة في دقّتها، ينهل منها ليبني عليها عالم السرد الخاص، نسأله بداية عن تلك الأشياء الصغيرة التي شكّلت ركيزة أساسية للسرد في “أطفال السبيل”، فيقول “إن جمال السرد ودهشته تكمن في هذه المكونات التي تبنى بها عوالم الفضاء والمتخيل”. فالرواية عنده هي “فن التفاصيل الصغيرة”، من هنا جاءت “أطفال السبيل” ففي بدايتها كانت مشهدا بسيطا بدأ واقعا بطله الراوي بالقرب من “باب شريف” وهو أحد الأبواب في أسوار مدينة جدّة التاريخية، حين التقط طاهر الزهراني الفكرة من أطفال عابرين فغاص أكثر في عالم الطفولة المهدور.
الرواية الرؤية
احتلّ المكان في فلسفة طاهر الزهراني بوصفه حدثا في رواية “أطفال السبيل”، فكانت، كما يقول ضيفنا، الأمكنة متنوعة في الحجاز؛ مكة المكرّمة، المدينة المنوّرة، جدة التي تدور فيها الأحداث، فهو يعتبر هذه الأماكن بيئة خصبة جدا للتأمل، والإسقاط، وعقد المقارنات الإشكالية. ففي جدة تشكيل من حضارات متنوعة، بعضها متجذر في التاريخ أتى استجابة للنداء المقدس؛ “جدة القديمة”،“النزلة” و“الهنداوية” و“السبيل” و“الكندرة”، تلك الأحياء -في رأي الكاتب- الملونة والفاتنة بكل شيء عريق، ساهمت في عمارتها ثقافات أتت من اليمن والشام وتركيا ومصر وإيران وأفريقيا، ذلك التمازج جعل المكان على صورته حدثا احتلّ مكانه الطبيعي في الحضور ضمن المتن الروائي.
أطراف كثيرة تمارس الرقابة في المملكة السعودية بدءا بوزارة الثقافة، فمرورا بالمتشددين، ثم وصولا إلى القبيلة
الزمان عند طاهر الزهراني في روايته موضوع الحوار، عابر هلامي غير محدود تتوزّع على ضفّتيه الأحداث بعبثيّة ممّا أضفى على السرد حالة خاصة، أسأله عن أحداث عبّرت الشخوص خلالها دون أن تتوقّف عندها بالتبيين، رغم إمكانية السرد المفتوح في لحظتها على أبواب الحكاية، كموقف موت الأب في حادثة الحرم المكي، ليقول ضيفنا “إنّ العمل الإبداعي بحاجة إلى مثل هذا التغافل، فقد تكون هناك مواطن مغرية للسرد، وقد يجدها الكاتب فرصة للحديث، لكن هل ستكون هذه الكتابة ضرورة في ذلك الموطن”.
الغراب هو الشرارة القادحة لبداية الأحداث في “أطفال السبيل”، وكما هو معلوم فإنّ طاهر الزهراني من مجتمع عربيّ أصيل يعتبر الغراب نذير شؤم، هنا نسأله عن مدى خوفه من فرض حالة الغراب في تشكيل النفور من النص لدى المتلقي، ليقول إنّه كان يحتاج مطلعا يلائم الحكاية، والغراب بنظرته الثاقبة قادر على رؤية المكان من الأعلى، المكان بوصفه عشوائيا غنيّا بالتفاصيل، خاصة أنّ حضوره في جدّة تحديدا غير مرغوب فيه إلى درجة أن وصل الأمر إلى القضاء عليه كليّا.
|
تكثيف حالة الغارب بوصفه ساردا أراد منها الزهراني كما يقول أن يظهر الغراب في صورة عكس الصورة النمطية الموجودة في أذهان الناس، فالشؤم والتطيّر الذي التصق بهذا المخلوق في ديوان العرب وكتب التراث كان لا بدّ من تغييرها، على الرغم من أن بعض كتب التراث تحدثت عن هذا المخلوق بإجلال، خاصة أن البشرية تدين له بدروس عظيمة تتعلق بمصيرها.
علاقة الأخوّة في رواية “أطفال السبيل” مربكة، وكذلك علاقة الأبوة أو البنوة ويتجلّى هذا بوضوح في مشهد سكب الماء المتبقيّ من غسل الوالد المتوفّى في البحر، عن هذا أسأل طاهر الزهراني عن رؤيته لهذه العلاقات الإنسانية الهشّة التي حاول إظهارها في النص، ليقول إنّ العلاقات التي تمّ بناؤها جاءت متوافقة مع ظروف النص وحتى على مستوى السرد.
يتطرّق ضيفنا هنا إلى الحديث عن الحالة الاجتماعية في بيئة غنيّة مثل مدينة جدّة، فالحارات والأحياء الشعبية كانت كلها بيئة خصبة وثرية على مستوى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وهذا الأمر تهتك الآن تماما -حسب ضيفنا- بعد زحف الإسمنت على المكان، وبعد الثورة التقنية المرعبة التي ساهمت في تقوقع الناس، وسلبهم جماليات الحياة.
الحديث عن أحياء جدّة قادنا إلى تناول الموروث الشعبي بالتحليل، وقد جاء العمل غنيّا به، فضلا عن القصص التي يمرّرها الراوي على لسان الحيوانات، حيث يعتبر طاهر الزهراني أنّ القصص والحكايات جزء من حياتنا وخاصة حين كانت المتع والملهيات قليلة، لهذا كانت الحكاية هي ملجأ الأمهات أيام الحزن، أو خلال أقات الانتظار، أو في حالات العزاء؛ كانت لكل قصة غاية، فجاءت الحكايات مليئة من كل اتجاه، لإيصال الفكرة في كل من الزمان والمكان.
المبدع والرقيب
الملفات الإشكالية التي مرّرها طاهر الزهراني في روايته “أطفال السبيل” أثارتنا للحديث عن العلاقة بين الرقيب والمبدع في المملكة العربية السعودية، ليؤكّد ضيفنا أنّ الرقابة من حيث الكتابة والنشر في المملكة تقلصت، مقارنا اليوم بالأمس حين كان الرقيب يتدخل في ما يكتب المبدع، خاصة في المسارات التي تتضمن اختراقا للتابو، يتحدّث الكاتب هنا عن تجربته الشخصية ومعاناته من التدخّل في هيكلة العمل الإبداعي حتى العناوين، يذكر هنا منع مسودة روايته “جانجي”، وردّ فعله في صرف النظر عن النشر المحلي تماما لينطلق في الكتابة دون طنين كما يصفها.
الزمان عند طاهر الزهراني في روايته عابر هلامي غير محدود تتوزع على ضفتيه الأحداث بعبثية
يتابع ضيفنا أنّ أطرافا كثيرة تمارس الرقابة في المملكة بدءا بوزارة الثقافة، فمرورا بالمتشدّدين ثم وصولا إلى القبيلة، التي يعتبرها الزهراني التابو المرعب، حيث يصف الهجوم الذي يلحق بالكاتب الذي يكتب عن القبيلة بالأشدّ والأنكى من أيّ هجوم قد تمارسه أي سلطة أخرى، وهنا يتذكّر تجربته عقب صدور روايته “نحو الجنوب” عام 2010.
يصف ضيفنا الحريات الأدبية اليوم في المملكة العربية السعودية بالسقف المرفوع بما يتعلّق بفسح الكتب الخارجية، سواء المحلية أو الأجنبية، وهذا ما يمكن ملاحظته على رفوف المكتبات العامة حيث روايات عبدالرحمن منيف وغازي القصيبي وعبده خال وغيرها من الكتب التي دخلت في دائرة المنع في فترة من الفترات.
الواقع ووصفه بشفافية كان لهما نصيب في حوارنا، فعن حال الساحة الأدبية السعودية يقول ضيفنا إنّ هناك فعاليات تتبناها وزارة الثقافة، وهناك ملتقيات حول النص الإبداعي، وأمسيات للشعر وللقصة، وجلسات نقدية، وسوق عكاظ، ورغم تعدّد تلك الفعاليات إلا أنّ البيروقراطية أثقلتها وجعلتها جزءا من عمل المؤسسة الحكومية.
نسأله عن تجربة الانتخابات في الأندية الأدبية ليقول إنّها كانت تجربة بائسة وفقيرة وعانت بعض التدخل والتشويه على حدّ وصفه، فما يسعى طاهر الزهراني إليه، هو أن تكون الثقافة جزءا من نسيج المجتمع؛ في المقاهي، والصالونات الأدبية، والشوارع، والساحات، وبهذه الصورة يكون الفعل الثقافي والأدبي صحيّا وذا جدوى.