طابور الحياة، بل قطار سعادة

لماذا ننزعج من الطابور، ونحن الذين خبرناه في سنوات التعليم الابتدائي والثانوي وفي العسكرية.. لماذا لا نستغل الوقت الذي نقضيه مصطفين لقضاء شأن ما، نستغله في التقاط الأفكار المتناثرة على الرصيف.. ننفض عنها الغبار، نفركها قليلا لننير بها الدرب كمصباح سحري.
يمكن أن نجعل من طابور الخبز أو أي من الطوابير التي نسميها ذيل الشيطان، نجعل منها قطار سعادة، فإذا وقفنا ننتظر دورنا في البريد أو المستشفى صباحا نوشوش في آذان بعضنا أغاني لفيروز، أما بعد الظهر فمن السهل أن نحكي نكتا ومزحا تشرح القلب، أو نمنح أنفسنا فرصة للاسترخاء والتأمل، هناك بعض الوقت لأنفسنا دون الحاجة إلى القيام بأنشطة محددة.
ثم إن السعادة لا تنبت في نفس الإنسان كالأعشاب الطفيلية، هي فقط قرار.. ألم يقولوا إن الزهو عند الفقراء، فقط لأنهم قرروا أن يضحكوا من كل الحالات التي تتعبهم ولن يحاكموا بتهمة التخمة في السعادة أو إحداث هرج وفرح في الطريق العام.. هم قرروا أن يريحوا أنفسهم تماما كما يفعل المساجين المحكومون بمدة طويلة فيتوقفون عن انتظار يوم الفرج ليصنعوا سلاما داخليا يحاربون به ضيقة الحبس.
كان زعيم للمافيا محكوما بأربع مئة سنة سجنا.. يعرف أن ليس له مخرج منها فتوسع في مجال الحرية التي يحتاجها ولكن في ذهنه فقط إلى أن رآه زملاؤه يوما يفكر.. ظنوا أنه انكسر.. وحين سألوه عن شروده أجابهم بأنه يخطط لكيفية قضاء سنوات تقاعده…
الطابور عندنا مرارة انتظار، ونحن الذين ندعي صبر الجمال.. يقتلنا الوقوف في الصف على شكل مستقيم أو دائري نملأ انتظارنا بالفراغ أو بالنبش في عيوب الآخرين.
يتفاخر مثقف من إحدى دول العالم الثالث وله الحق في ذلك بأنه قرأ نصف مكتبته وهو ينتظر الحافلة التي تُقلّه إلى الجامعة.. لم يضجر ولم يشغل انتظاره بمراقبة عجيزات زميلاته ولم يفتح خياله لحبّهن.. فقط قرأ كتبا دون أن يتأفف من وضع سبابته على لسانه ليتصفح الورق.
الطابور عند آخرين عنوان نظام وانتظام وحماية.. كائنات عديدة تعيش وفق نظام الطوابير كما في مملكة النمل واليابانيين، حتى أنني أتصور أن النحل يقف على الدور حين يريد أن يتخلص من عسله.
نحن نسير في طابور الحياة معا مطالبين بمواجهة الأزمات اليومية، فلماذا لا نكون كالنمور التي تُنظم نفسها للصيد والتنقل، أو كالطيور المهاجرة التي تقتصد في طاقة الرحلة بسيرها أسرابا، أو حتى كالقرود التي تتآزر في البحث عن قوتها.. دعنا نكنْ كالتونة والسردين أو أي سمك من الأسماك التي تتحرك في نظام جماعات يحقق لها الحماية وزيادة فرص البقاء على قيد الحياة.