ضمان مستقبل السكان أكبر التحديات أمام المدن العربية

التخطيط العمراني للمناطق الحضرية يعمق الفجوات الاقتصادية في المجتمعات.
الأربعاء 2020/09/30
مدن أفقر من سكانها

تواجه المدن العربية تحديات كبيرة بسبب التحول الديموغرافي والاكتظاظ السكاني، الذي لم يرافقه تغيير في فلسفة تصاميم البنايات والأرصفة والخدمات، ومن غير المستبعد أن يشهد المستقبل القريب أزمات أكثر تعقيدا، إذا لم تضع الحكومات مشكلات التحضُّر وتغيُّر المناخ ومخاطر الكوارث والأوبئة في مقدمة أولوياتها.

احتلت المدن العربية لعقود طويلة مراكز متقدمة على الصعيد الثقافي والعمراني والنمو الاقتصادي، لكنها تواجه اليوم الكثير من التحديات والأزمات التي غيرت شكلها وهويتها، وأثرت على جودة حياة المواطنين، وأفقدتها مكانتها الحقيقية في المجتمع الدولي.

وسلط تفشي وباء كورونا الضوء على مشكلات المدن، التي لم تعد آمنة وقابلة للعيش، كما كشف عن التفاوتات الاجتماعية والمكانية داخل المدن، والمعاناة التي تتحملها الأحياء الضيقة والمزدحمة التي تقطنها الطبقة العاملة والفقيرة، سواء بسبب الإصابات أو فقدان سبل كسب الرزق.

ويبدو أن إعادة النظر في مساحات المدن العربية وتصميمها وتوزيعها المكاني، ويشمل ذلك الأرصفة والمتنزهات والمساحات المفتوحة، بالإضافة إلى المرافق العامة مثل المكاتب والمراكز المجتمعية، أمر على جانب كبير من الأهمية من أجل التصدّي للتحدّيات التي تطرحها سرعة التحضُّر وزيادة السكان وتغيُّر المناخ ومخاطر الكوارث، وحتى تصبح المُدن محرّكا للنمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي والاستدامة البيئية.

مواكبة للعصر

عدد سكان العالم العربي سيبلغ 500 مليون نسمة بحلول عام 2050
عدد سكان العالم العربي سيبلغ 500 مليون نسمة بحلول عام 2050

تشكل تهيئة مدن تركز على تلبية احتياجات سكانها نشاطا اقتصاديا ذكيا في الكثير من دول العالم، التي يحرص المسؤولون فيها على وضع استراتيجيات جديدة ومواكبة للعصر على صعيد نمط الحياة.

ففي دول شمال أوروبا على سبيل المثال أصبح المهندسون والمخططون العمرانيون والمسؤولون البلديون يضعون في مقدمة أولوياتهم مدى ملاءمة المدينة للعيش واستدامتها بيئيا وسهولة الحركة والتنقل فيها وتمكين المواطنين، وهذه المبادئ تتجلى في المتنزهات الخضراء الشاسعة والساحات العامة المضيئة وشبكات النقل القوية ووفرة المرافق العامة التي يسهل على الأطفال والمسنين استخدامها.

ولفت نجاح نموذج التخطيط العمراني في دول شمال أوروبا، الأنظار إلى هذه المنطقة، فوفقا لدراسات أجرتها شركة “ميرسر” للاستشارات العالمية، فإنه في عام 2019، حلت كل من عاصمة الدنمارك “كوبنهاغن” وعاصمة السويد “ستوكهولم” وعاصمة النرويج “أوسلو” وعاصمة فنلندا “هلسنكي” ضمن أفضل 25 مدينة من حيث جودة المعيشة.

ووفقا لوحدة المعلومات الاقتصادية التابعة لمجلة الإيكونمست، حلت ستوكهولم في المرتبة الثانية من حيث الحفاظ على البيئة في مؤشر “أركاديس” للمدن المستدامة، بينما حلت كوبنهاغن في المرتبة التاسعة في مؤشر أكثر المدن ملاءمة للعيش.

ترييف المدينة

أيّ طعم للحياة في العشوائيات
أيّ طعم للحياة في العشوائيات

لكن هذا النمط من المدن يبدو بعيد المنال على معظم سكان المدن العربية، التي لم تعد أساليب تخطيطها العمراني تتناسب مع احتياجات سكانها ومتطلباتهم.

وأشار تقرير سابق للأمم المتحدة إلى أن التحدّيات التي ظلّت تواجه البنى الأساسية الحضرية في المدن العربية على مدار السنوات الماضية، ناتجة عن عدد من العوامل منها، انتشار التحضُّر، الذي أدى بدوره إلى زيادة الأحياء والمساكن العشوائية والمناطق الفقيرة على أطراف المدن، وساهم في ارتفاع الطلب على الخدمات وزيادة تكاليف المساكن، مع ارتباط ذلك بالتوسُّع غير المدروس للمُدن، إضافة إلى سوء الإدارة التنفيذية، وضيق المساحات العامة، وإجهاد البنية الأساسية، واتساع الفوارق بين المدن والأرياف.

وفضلا عن ذلك، فإن أساليب التخطيط العمراني التي تجاوزها الزمن، قد أصبحت غير ملائمة للعيش، وزادت في تفاقمها تأثيرات المناخ، وتدهور خدمات الإمداد بالمياه الصالحة للشراب، وإدارة مياه الصرف الصحي، وتوليد الطاقة الكهرومائية، وإدارة مياه العواصف ووسائل الحماية من الفيضانات.

طارق بالحاج محمد: الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن أدت إلى الاختلال الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي
طارق بالحاج محمد: الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن أدت إلى الاختلال الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي

وبرغم أن بعض هذه التحدّيات ليست بالجديدة، لكنها أصبحت أكثر خطورة، جرّاء النمو السكاني الذي لم يسايره تحسُّن متواز في القدرة المالية والمؤسسية على إدارة خدمات المرافق الأساسية للمدن.

وعلى مدار العقدين الأخيرين، ارتفعت معدلات الهجرة من الأرياف إلى المدن العربية الكبرى بحثا عن فرص والخدمات الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية، وأصبحت بعض المدن أكثر اكتظاظا بالسكان، فيما تعيش نسبة كبيرة منهم في أحياء فقيرة ومناطق عشوائية، تتسم بمحدودية الفضاء العام ونقص الخدمات الصحية.

وحسب البيانات الصادرة عن إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، كشفت الإحصاءات أن عدد سكان العالم العربي سيصل إلى 500 مليون نسمة بحلول عام 2050، بعد أن وصل عدد السكان إلى 340 مليون نسمة عام 2013، وبمعدل نمو سكاني يساوي 2.4 في المئة، وستبلغ نسبة من يعيشون في المناطق الحضرية من السكان 66 في المئة.

وأكد طارق بالحاج محمد الباحث التونسي في علم الاجتماع في تصريح لـ”العرب” أن الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن أدت إلى الاختلال الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي، وساهمت في الاكتظاظ السكاني في المدن الكبرى واختلال التوازن بين الموارد الاقتصادية المتوفرة والمتاحة وحاجيات السكان، وظهور أنشطة اقتصادية موازية وهشة ومضرة بالاقتصاد وبمن يمارسها، كالسرقة والتسول والدعارة أو الانخراط في شبكات الجريمة المنظمة وحتى الشبكات الإرهابية.

وشدد بالحاج محمد على أن الهجرة الداخلية ساهمت أيضا في ترييف المدن لما طرأ عليها من ممارسات وسلوكيات تتعارض مع الحياة المدنية والحضرية، وخلقت نوعا من التمييز بين السكان الأصليين للمدن والوافدين الجدد وعمّق الشرخ الاجتماعي، لتصبح المدينة عبارة عن كنتونات غير متجانسة وحتى متنافرة ومتصارعة.

أسوأ مكان للعيش

أحياء كالأموت
أحياء كالأموات

برغم أن المدن تسهم في تشكيل الكثير من جوانب حياة سكانها، فهي المكان الذي يتفاعلون فيه مع بعضهم البعض، كما تمثل طريقة تصميمها حجر الأساس في كيفية تطور العلاقات الاجتماعية، إلا أن مجموعة كبيرة من المدن العربية لم تعد أماكن مثالية للسكنى.

وبحسب التقرير السنوي لعام 2019 الذي أعدته “إكونوميست إنتلجنس يونيت”، التابعة للمجلة البريطانية الأسبوعية “ذي إكونوميست”، تبوأت العاصمة السورية دمشق وبعدها بثلاث مراتب العاصمة الليبية طرابلس تصنيفا جديدا كأسوأ مكان للعيش.

وكانت دمشق قبل الأحداث التي عصفت بسوريا عام 2011، من بين أكثر المدن استقطابا للزائرين لما فيها من درجة اطمئنان وخدمات جيدة، لكن الحرب المتواصلة في البلاد سلبت منها ذلك ولم تعد تطاق حتى لساكنيها.

وتعيش العاصمة الليبية طرابلس أسوأ سنوات في تاريخها بسبب سيطرة الميليشيات على مقاليد الحياة فيها وانعدام الخدمات وضعف الحكومة فيها واستمرار القتال بين الفصائل السياسية.

أما العاصمة العراقية بغداد فقد تتبوأ المرتبة الأخيرة في أغلب التصنيفات كأسوأ مكان للعيش في العالم ولم تتقدم عليها سوى العاصمة الصومالية مقديشو في ذيل التصنيف، إلا أن التصنيف الجديد لم يشر إليها.

وعادة ما تصنّف العواصم العالمية وفق درجة الرفاهية فيها والخدمات المقدمة وعلاقة السكان مع الحكومة ودرجة الاطمئنان.

وتقيّم سنويا 140 مدينة على سلم من مئة نقطة استنادا إلى سلسلة من المؤشرات منها مستوى المعيشة والجريمة وشبكات النقل العام وإمكانية الحصول على التعليم والخدمات الطبيّة والاستقرار الاقتصادي والسياسي.

وفي ظل النمو السكاني والتوسع العمراني السريعين ونقص وتداعي ركائز الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، أثيرت مخاوف عديدة حول مستقبل المدن العربية وما ستواجهه من تحديات ومخاطر جديدة غير مسبوقة.

انفراط عقد المجتمع

التخطيط العمراني المستدام للمدن يلعب دورا في حل مشاكل السكن، ويحد من الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الأغنياء والفقراء
التخطيط العمراني المستدام للمدن يلعب دورا في حل مشاكل السكن، ويحد من الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الأغنياء والفقراء

يعد التفاوت في توزيع الثروات والمشاركة السياسية والمركزية في اتخاذ القرارات من أهم العوامل التي تؤدي إلى انفراط عقد المجتمع وتمزقه، وفوق ذلك، تعوق قدرة أفراده على الاستجابة للمشكلات البيئية والاجتماعية والاقتصادية.

وحذر البنك الدولي من تفاقم الكثافة السكانية في المدن والأحياء العشوائية وطالت تحذيراته مدنا عربية، من بينها القاهرة التي تعد من أكثر المدن العربية كثافة سكانية بنحو 50 ألف مواطن في الكيلومتر المربع، تليها الرياض، ثم بغداد، ورابعا تحل الخرطوم.

ودعا البنك الدولي الحكومات إلى إصلاح خلل الجغرافيا الاقتصادية، والتفاوتات الاجتماعية والمكانية داخل المدن التي اتسعت هوتها بشكل غير مسبوق.

وتشير دراسات إحصائية عن مجتمعات سابقة إلى أن العنف السياسي رديف التزايد السكاني وانعدام المساواة، وكلما زاد عدد السكان، فاق المعروض من العمالة معدل الطلب عليها، وتراجعت أجور العمال وبالتالي ازداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا. وهذا التفاوت في توزيع الثروات يؤدي إلى تفكك المجتمع وظهور الاضطرابات السياسية.

ويرى المؤرخ والخبير جوزيف تينتر أن المجتمعات تنهار تحت وطأة التعقيد والتشابك والبيروقراطية، فالمجتمعات تزداد تعقيدا وتشعبا كلما واجهت مشكلات جديدة، لكن مردود التطور والتعقيد يقل تدريجيا ويقود البلاد إلى الانهيار.

ودعت منظمة الأمم المتحدة في التقرير العربي للتنمية المستدامة لعام 2020 الدول العربية إلى مواجهة تحديات التوسّع العمراني بالتخطيط الذي يركز على الإنسان والسياسات المتكاملة لتصميم المساحات، مشددة على أن تحسين الحوكمة في المدن والمستوطنات البشرية ضرورة لا تقل عن الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، بما في ذلك الأراضي.

وفي ضوء ذلك، يأمل بعض الخبراء أن يلعب التخطيط العمراني المستدام للمدن دورا في حل المشكلات التي ستواجهها المنطقة العربية مستقبلا، ولاسيما صعوبة العثور على مساكن منخفضة التكلفة وزيادة الفجوة بين الفقراء والأثرياء.

تلبية احتياجات السكان

خبراء: ضرورة إجراء بعض التعديلات والاستراتيجيات التي تراعي مصلحة جميع المواطنين وظروفهم الاجتماعية
خبراء: ضرورة إجراء بعض التعديلات والاستراتيجيات التي تراعي مصلحة جميع المواطنين وظروفهم الاجتماعية 

اعتبر مهندس الاتصالات التونسي محمد العقوبي أن التخطيط العمراني للمدن العربية لن يكون قادرا على الصمود في وجه الأوبئة والكوارث الطبيعية المستقبلية، أو يلبي احتياجات السكان، ويواكب النمو السكاني السريع.

ولاحظ اليعقوبي أن العواصم العربية قد أصبحت تجتذب المزيد من السكان بسبب مركزية الخدمات، وللتغلب على ذلك أكد على أهمية التوزيع العادل للثورات والخدمات على مستوى الجهات وتحسين الأمن والرعاية الصحية ووسائل النقل في المناطق الفقيرة.

ونوه اليعقوبي إلى ضرورة أن يراعي مسؤولو البلديات ومخططو المدن مصلحة جميع السكان دون إقصاء أو تهميش لأي فئة من فئات المجتمع، لكنه لا يعتقد أن الحكومات العربية تحرص بالفعل على مصلحة جميع مواطنيها.

وأشار إلى أن الحياة اليومية للسكان في المدن العربية ظلت متخلفة ومتراجعة مقارنة بالتطور التكنولوجي والصناعي الذي تشهده المدن في الدول الغربية.

ويرى أن انعدام المساكن منخفضة التكلفة في الدول العربية، واكتظاظ بعض المدن الكبرى، أديا إلى خلق فجوات بين طبقات المجتمع، إثر نزوح أصحاب الدخول المنخفضة إلى أطراف المدن وانتقال أبناء الطبقة المتوسطة إلى وسطها، وتفاقمت تحديات احتواء جميع المواطنين بسبب تدفق عدد كبير من سكان المناطق المهمشة اقتصاديا نحو المدن.

وقال اليعقوبي “للأسف، لم يتدرب المهندسون المدنيون في الدول العربية على التعامل مع التغيرات المناخية في الدورات التعليمية في الجامعات وكذلك الحال بالنسبة للمسؤولين على التخطيط في المجالس المحلية للمدن، ومديري الأحياء، ولا أعتقد أن أحدا منهم لديه دراية موسعة حول هذا الأمر”.

وأضاف “إننا لا نحتاج إلى إعادة بناء المدن العربية من جديد لتصبح قادرة على مواجهة جميع هذه التحديات، بقدر ما نحتاج إلى إجراء بعض التعديلات والاستراتيجيات التي تراعي مصلحة جميع المواطنين وظروفهم الاجتماعية وتحد من الضغط على المدن التي تتوفر فيها الأنشطة الاقتصادية والتجارية”.

وبدأت بالفعل بعض المدن العربية في تطبيق بعض الأفكار المُبتكرة لمعالجة المشكلات الحالية للنمو السكاني وتلبية الاحتياجات المتزايدة لمواطنيها، وذلك عبر الاستفادة من التطورات التقنية المُصاحبة للثورة الصناعية الرابعة.

وتشير التوقعات إلى أن حجم سوق تقنيات المدن الذكية العالمي سينمو ليصل إلى 1.7 تريليون دولار بحلول العام 2023، ومع ذلك لا تزال معظم الدول العربية عاجزة عن مواكبة التوجه العالمي في هذا المجال، بسبب ما تعانيه من مشكلات اجتماعية وأزمات اقتصادية وسياسية.

وفي نهاية المطاف، يمكن الإقرار بأن تخطيط مدينة على شاكلة تجعلها ملائمة لجميع السكان، أمر ليس باليسير على الإطلاق، ولكن حياة المدن في القرن الحادي والعشرين أصبحت تفرض متطلبات معيشية تختلف عن المدن التقليدية، ومن المهم التفكير في تصميم مدن مستدامة وذكية لتحقيق الأمن والاستقرار الاقتصادي والمساواة بين الجنسين وغير ذلك من الأهداف التي تجعل المدينة أكثر من مهجع للنوم.

12