ضفاف العالم التالي في لوحات اللبنانية عايدة سلوم

الفنانة تتأمل وتختبر بصريا أصول الضوء وارتداداته الروحية.
الأربعاء 2022/02/23
الخطوط جسور لونية تنقل المشاهد من ضفة إلى أخرى

بعد انغماسها في رحلة تأمل عميق في ذاتها وتجربتها الفنية ولوحاتها السابقة، أعادت الفنانة اللبنانية عايدة سلوم تشكيل لوحاتها، منصتة إلى صوت ذاتها الخفي ومرممة انكساراتها الدفينة في أجواء صوفية مبنية على العالم المادي ومتحررة منه في الآن نفسه.

افتتحت صالة “جانين ربيز” البيروتية معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية عايدة سلوم بعنوان “وشوشات” يستمر حتى الثامن عشر من شهر مارس القادم.

ويضم المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات مشغولة بالأكريليك تبين مدى تطور نص الفنانة وتشير إلى سبب غياب عايدة سلوم عن العرض نسبيا مقارنة بالفنانين التشكيليين الآخرين الذين كرسوا ذاتهم مثلها على الساحة الفنية.

وجاء هذا المعرض وبشكل جليّ نتيجة تأملات واختبارات بصرية في أصول الضوء وارتداداته الروحية وبالتالي تأثيره على كيفية رؤية العالم المحيط المحكوم بالزوال.

معرض يشبه صاحبته

عايدة سلوم: التأمل الضارب في أعماق ذاتي دفعني إلى مضاعفة استكشافاتي في هذا التأمل في الضوء والنور والفضاء والبهاء

ومن يعرف الفنانة يُدرك أن هذا النصّ الفني يشبهها كثيرا أكثر مما سبق أن قدمته الفنانة، فهي إنسان لا تتناول الأشياء والأشخاص في البداية إلا من ظلالها، فتستدرجها بعذوبة البطء لتقيم معها حوارا حميميا بعيدا عن الانشغالات اليومية المقلقة التي تلازم كل فرد منا.

وقد يتفاجأ زائر معرضها عند رؤيته لأعمال فنية مغايرة لما سبق أن عرضته، أي ليس فيها أية مشاهد طبيعية أو وجوه مشغولة بنبرة انطباعية واضحة. غير أنه بعد دقائق معدودة سيكتشف أن ما تقدمه الفنانة اليوم ليس هو مُطلقا خارج منطق مسيرتها الفنية، بل هو امتداد له.

في هذا السياق تبدو لوحاتها السابقة المشغولة بالضوء وبالأشكال الواقعية الواقعة تحت تأثيره ومزاجه المتحول قد تكثفت وتقلصت اليوم عناصرها لترزح تحت “انخفاض جوي” متمثل بألوان مكفهرة ظاهريا تنذر بهطول أمطار، ولكن تصاعديا نحو سطح اللوحة، نحو سطح الوعي الصافي.

ولا تبوح أعمالها كما تبوح اللوحات التجريدية عما يشغلها. وإن بدت لوحات عايدة سلوم متداخلة لونيا ولا تظهر فيها أشكال بيّنة لاسيما إن نظرنا إليها عن قرب، فهي لا تعود كذلك لحظة ابتعادنا عنها بضع خطوات. عندها تظهر مشغولة وفق طبقتين لا تشف إحداهما على الأخرى بقدر ما تظهر تشقق أولى الطبقتين كما تتباعد الغيوم الداكنة عن بعضها البعض لتظهر معالم مستوى تال هو العالم الملون الأقل وحشة والأكثر طمأنينة بأشواط.

تقول الفنانة عن معرضها هذا ما يتلاءم مع منطق تحولها الفني نحو صوفية غنائية استثنائية أكثر منها تجريدية متأصلة في الإبهام البصري، ونحو حميمية مرتبطة بتوغلها في عالمها الداخلي أكثر من توجهها نحو أسرار وأقدار الوجود الإنساني بالمعنى المطلق.

وتضيف أن “التأمل الضارب في أعماق ذاتي دفعني إلى مضاعفة استكشافاتي في هذا التأمل في الضوء والنور والفضاء والبهاء المشرق وعملت جاهدة لتفسير مكونات اللوحة وأبعادها المغلقة المستترة وأعتقد أنني نجحت بإعادة تشكيلها وفق أصول ممكنة”.

ومن جديد رفعت منسوب البصر في محاولة لالتقاط ومضات اللون المتفجر في غارب الزمن وغارب المكان المشع، وتضيف في مكان آخر “أنصت إلى صوت الذات كما لو كنت امرأة، كما لو كنت امرأة أخرى، هي التي تنصت إلى صوت ذاتها العميق. تبدأ هي بضربة فرشاة تنتهي إليها، وفيها. نقطة تلو النقطة. وضربة إثر ضربة، ترتفع حياة الحواس ويتكون ما يرمم ذلك الانكسار الدفين. بصوت خافت أنا التي هي تنقر على وتر واحد كي تخبئ مئة صوت ومئة لون”.

تحول فني

? الحركة الدائرية والمتوسعة لضربات فرشاتها هي طواف يشتدّ وتخف نبرته في لوحة دون أخرى ويأخذنا بعيدا عن الفن التجريدي

كما يمكن للوهلة الأولى التساؤل أمام أعمالها الجديدة حول غياب ما قدمته في معارضها السابقة، كذلك نستطيع تغيير نظرتنا إلى هذه الأعمال والتوقف عن رؤيتها أعمالا تجريدية، إذ سرعان ما تبرز أجواء صوفية مبنية على العالم المادي وغير الملتزمة به على السواء.

وتوضيحا لذلك نقول إن الحركة الدائرية والمتوسعة لضربات فرشاتها هي طواف يشتدّ وتخف نبرته في لوحة دون أخرى ويأخذنا بعيدا عن الفن التجريدي. طواف جاء في لوحاتها على شكل زوابع ضبابية لطيفة كندف الثلج ظهرت كأنها غشاوة رقيقة تحفظ دفء الداخل ولا تسمح لعين المُشاهد بالدخول إليه إلا من خلال انقشاع هو دوما في لوحاتها تشققات لونية وتباعد بين ضربات الريشة تسمح لعين المُشاهد انتقالها من الخارج، أي سطح اللوحة، إلى الداخل حيث تقلصت المشاهد الواقعية التي ذكرناها آنفا وهمد صخبها.

تندرج لوحات الفنانة ذات القياسات المحددة والمستطيلة في معظمها خارج مفهوم التأطير. فلا بداية ولا نهاية في لوحاتها، بل طواف بصري يحمل على أجنحته الضبابية “لحظات”. لحظات تمر ببطء التأمل. وليست هذه اللحظات إلا الخطوط البارزة التي تخطر في فضاء لوحاتها صعودا وهبوطا كجسور لونية متينة باستطاعتها أن تنقل المُشاهد من ضفة إلى أخرى. وهي العالم التالي الأكثر ألوانا ودفئا.

وإن كان لدي لوحة مفضلة من لوحات عايدة سلوم فهي بالتأكيد واحدة من اللوحات الزرقاء التي تزخر بنعيم التصالح مع الوجود لأنها تومئ بطلوع شمس ما ليست من هذا العالم.

ويُذكر أن الفنانة من مواليد سنة 1954 في قب إلياس، البقاع، لبنان. وهي حاصلة على دراسات عليا في الفنون الجميلة من الجامعة اللبنانية وعلى دبلوم دراسات معمقة في الفن المقدس من جامعة الروح القدس اللبنانية. شغلت منصب أستاذة للفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية منذ سنة 1998.

لوحة لوحة لوحة لوحة

         ? لوحات عايدة سلوم متداخلة لونيا ولا تظهر فيها أشكال بيّنة لاسيما إن نظرنا إليها عن قرب

14