ضغوط ترغم قايد صالح على الاحتماء مجددا بعباءة الحراك الشعبي

تحيل الخطابات المتتالية لقائد أركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح، المتابعين للشأن الجزائري، إلى استنتاج حالة ارتباك في هرم أعتى مؤسسة في الجزائر، يراهن عليها للخروج بالبلاد من نفق الأزمة السياسية التي تتخبط فيها منذ أكثر من شهرين، وإلى طرح الخيارات المتبقية لها، للحفاظ على التوازنات الكلاسيكية في تركيبة الدولة.
الجزائر – ألقى الرجل الأول في المؤسسة العسكرية الجزائرية أحمد قايد صالح منذ اندلاع الحراك الشعبي في الجزائر ستة عشر خطابا ورسالة، بالبزة العسكرية ومن داخل الثكنات، وهو ما ينفي أي محاولة للنأي بالجيش عن التجاذبات السياسية، ويوحي بحالة قلق في التعاطي مع تسارع الأحداث في البلاد.
ولم يمض أكثر من 24 ساعة على خطاب قايد صالح في مقر الناحية العسكرية الأولى بالبليدة، والذي وصف بـ”المخيب” و”المنقلب” على الالتزامات التي قطعها على نفسه في تصريحات سابقة، حتى أعقبها بخطاب جديد الأربعاء راجع الرجل فيه مواقفه المذكورة، بالتأكيد على “الحلول الممكنة” إلى جانب المقاربة الدستورية للأزمة السياسية والمرحلة الانتقالية.
ويبدو أن قائد المؤسسة العسكرية، أراد من خلال ترديد مفردة “الحلول الممكنة”، إعطاء الانطباع بأن خيارات عديدة مطروحة للخروج من الأزمة السياسية، لطمانة ردود فعل الشارع الجزائري والطبقة السياسية، والمظاهرات الطلابية الشاملة، التي قلصت عليه هامش المناورة. فالحرب المعلنة على رموز الفساد لم تعد تقنع الحراك الشعبي أو تثنيه عن مطلب رحيل السلطة وتحقيق التغيير الجذري في البلاد.
ويبدو أن الحزم الذي يظهر على جهاز القضاء، بإيعاز من المؤسسة العسكرية، لفتح ملفات الفساد ومساءلة الرموز المالية والسياسية المحسوبة على نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، بما فيها الملفات التي طويت منذ سنوات على غرار الطريق السيار شرق غرب، وسوناطراك 1 و2، ومجمع الخليفة بنك.. وغيرها، لا يمكن أن يسقط على الحراك الشعبي، لإرغام الجزائريين على العودة إلى بيوتهم والاكتفاء بما تحقق.
وتكون سلمية وهدوء الحراك الشعبي، الذي لم تسجل فيه أحداث عنف أو فوضى، طيلة تسع مسيرات مليونية، قد فسخا أوراق اللجوء إلى العنف لفضه من قبل السلطة، وأي تغير في تعامل قوات الأمن مع المتظاهرين، سيحسب على السلطة وسيزيد من متاعبها أمام الرأي العام المحلي والخارجي، وستضطر إلى تحمل مسؤولية أي انحراف نحو العنف.
ويبدو أن المؤسسة العسكرية، لا تريد تكرار تجربة تورط المؤسسة العسكرية في الأزمة السياسية لتسعينات القرن الماضي (العشرية الحمراء)، لما وجد الجيش نفسه في أتون حرب أهلية أدت إلى سقوط ربع مليون جزائري، بسبب قرار سياسي دفعت إليه المؤسسة العسكرية، ولذلك تلح قيادة أركان الجيش، على مغازلة الحراك الشعبي في كل مرة، والتراجع من حين إلى آخر عن تلميحات التهديد والحزم، تحت ضغط الشارع.
ويرى متابعون للشأن الجزائري، أنه لم يبق أمام قيادة أركان الجيش إلا التفاعل الإيجابي مع الحراك الشعبي للاحتماء به والتصرف بشرعيته، لمجابهة ضغوط خارجية وداخلية، تدفع بها إلى زوايا ضيقة من أجل الوصول إلى أجندات خفية ومعلنة.
ويذهب هؤلاء إلى أن مواقف المؤسسة الممانعة لدعوات جيوش إقليمية، من أجل الانخراط في تحالفات عسكرية جهوية في المنطقة، تحت غطاء الحرب على الإرهاب، في منطقتي الساحل والصحراء ورفض بعض صفقات التعاون المشبوه، تضعها تحت ضغط تلك الجهات، من خلال حصارها بترصد شبهات الضلوع في الشأن السياسي وحتى قيادة انقلاب أبيض في التوازنات الداخلية.
ولا تتوقف متاعب قيادة الأركان عند هذا الحد، بل تتعداه إلى صراع قوي تخوضه ضد أجنحة نافذة ومؤثرة داخل جسد المؤسسة العسكرية، فهي تجابه بشدة خلال الشهرين الأخيرين، مناورات مضادة من طرف جيوب جهاز الاستخبارات المنحل بقيادة الجنرال المتقاعد محمد مدين (توفيق)، وجناح الجنرالات الموقوفين (مناد نوبة، الحبيب شنتوف، سعيد باي، عبدالرزاق شريف وبوجمعة بودواور)، فضلا عن جناحي قائد جهاز الاستعلامات المقال بشير طرطاق، والموالين للمدير العام للأمن السابق الجنرال عبدالغني الهامل.
ويقول متابعون إن الأجنحة العسكرية التي تجمعها خصومات عميقة مع أحمد قايد صالح كثفت من مناوراتها في الآونة الأخيرة، ويمكن أن تتوصل إلى انقلاب أبيض داخل المؤسسة، وهو ما يتوجس منه قائد الأركان، الذي أحاط نفسه بجنرالات موالين له، ورفع من وتيرة تفكيك بؤر التوتر والامتدادات لاسيما داخل عالم الأعمال والسياسة والمؤسسات الرسمية.
وتشدد المؤسسة العسكرية في خطاباتها المتتالية، على ضرورة تسريع خطوات الخروج من المأزق، تفاديا لأي انزلاق في الشارع تحت تأثير الأجنحة المضادة، لأنها تدرك أن ورقة الوقت لا تلعب في صالحها، وأن الإطالة في عمر الأزمة تطيل عليها المأزق الذي تريد الخروج منه بأخف الأضرار، لاسيما إمكانيات الوقيعة بينها وبين الحراك الشعبي.
ولتفادي سيناريوهات الوقيعة أو الدفع إلى الصدام بين الجيش والعسكر، عاد الجنرال قايد صالح، الأربعاء، إلى التأكيد على أن “الجيش سيرافق الشعب ومؤسساته من خلال تفعيل الحلول الممكنة ويبارك كل اقتراح بنّاء ومبادرة نافعة تصبّ في سياق حلّ الأزمة والوصول بالبلاد إلى بر الأمان”.
وهو تراجع صريح عن موقف الثلاثاء، لما عاتب الطبقة السياسية على مقاطعة ندوة المشاورات السياسية التي دعا إليها الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح، وانتقد إعاقة عمل المؤسسات والمسؤولين، في إشارة إلى الحصار الشعبي المضروب على حركة وزراء ومسؤولي حكومة نورالدين بدوي.
وأضاف في كلمته الأخيرة “الجيش الوطني الشعبي، ومن منطلق قناعاته الراسخة وإيمانه المطلق بضرورة الحفاظ على جسور التواصل مع عمقه الشعبي المتجذّر، الذي يُعد سنده ومنبع قوته، وسر صموده أمام كل الأخطار والتهديدات، سيواصل في هذا الظرف الحساس، تبني نفس النهج الصادق، بإطلاع المواطنين دوريا بكل ما يرتبط بأمنهم وأمن وطنهم”.