ضرورة منع توالد البيئة الحاضنة للإرهاب في عمان

العمانيون أظهروا موقفا رافضا لمثل هذا الزرع السام في أرض السكينة لكن الحماية الفكرية للمجتمع تمر أول ما تمر على منع المزايدين والمتحمسين أن يجعلوا الشباب العمانيين متقبلين للفكر المتطرف.
الاثنين 2024/07/22
كيف نبت زرع داعش المسموم على أرض التسامح

دولة تقدم نفسها كنموذج للتعايش بين المذاهب. السلطة فيها وإن كانت من طائفة تعد أقلية في نسيج المذاهب الإسلامية، إلا أنها ترى نفسها بما تمارسه من توازن بين التركيبة المذهبية للبلاد، حكما عدلا بين الجميع. يفرض التاريخ حكما على دولة جوار وتشتعل فيها حرب أهلية تستمر لسنوات طويلة. تجد الدولة نفسها بحكم الجغرافيا على أقل اعتبار طرفا فيها. بمرور الوقت، ولاعتبارات الميل لصالح طرف على حساب آخر، تصير الدولة داعمة لموقع إيران الإقليمي وطموحها بالهيمنة. هل تم هذا بادراك أو بانسياق بحكم التحسس مما يجري في دولة الجوار؟ هذا أمر فيه جدل. بعد فترة، تصبح الدولة ممرا للسلاح نحو الدولة المجاورة، ويجد بعض أطراف الحرب الأهلية فيها منصة ومستقرا، مرة للتفاوض ومرات للسياسة والإعلام. تبرز أزمات إقليمية جديدة تزيد من تعقيد الوضع الإقليمي، وينعكس هذا على التصافي المذهبي، ونصير نسمع التذمر من سيادة حالة طائفية أو مذهبية على حساب أخرى. تجاري الدولة إيران ذات الصوت العالي، وتصير أقرب بخطابها السياسي والإعلامي لحماس الإخوان وحزب الله الإيراني. نسمع فتاوى من كبار رجال الدين المحسوبين على السلطة بضرورة نصرة حماس وحزب الله. تتغير لغة الإعلام وتميل أكثر للتصعيد، مما يتسبب في خلق جزر مستقبلة لهذا الخطاب القائم على المفردات الدينية، ثم تبدأ مفردات الاعتدال بالتلاشي. تنبت شرور التطرف في هذه البيئة. وبدلا من أن يوجه المتطرفون فوهات بنادقهم نحو العدو المفترض – أي إسرائيل – فإنهم أول ما يبدأون فيستهدفون أمن البلد.

من يقرأ الفقرة أعلاه، وإلى حد ما قبل أسبوع مضى، سيخرج بانطباع بأنه توصيف للحالة السورية، بجوارها العراقي والتأثير الإيراني والتصعيد الإقليمي وكيف انجر نظام بشار الأسد العلماني إلى أن يصبح حليفا مهللا لتنظيمين إسلاميين هما حماس (على الأقل ما قبل 2011) وحزب الله. لكنه للأسف توصيف قريب أيضا لما يحدث في واحد من أكثر البلدان العربية هدوءا وسكينة: سلطنة عمان.

◙ عملية مسقط يجب أن تكون الأولى والأخيرة، لكي ينتهي معها أيّ توالد للبيئة الحاضنة للإرهاب، ولكي تنتهي المقارنة معها بالنموذج السوري

قبل أشهر كتبت عن خطورة هذا الحماس المتصاعد في عمان لحماس وحزب الله والحوثيين. مثل هذا الحماس الذي يحمل بصمة دينية مهما حاولت نزع الدين عنه، يخلق جوا يتجاوز جو التعاطف مع قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية. قبل أن ينتبه القائمون على الأمر، من ساسة البلد ومن أجهزته الأمنية، يكون الخطاب المصاحب للحماس قد صنع بيئة متلقية لأفكار أكثر تشددا وتطرفا. هذا ما حدث في كل تجارب الإسلام السياسي السنية والشيعية، ولن تكون السلطنة استثناء.

الحادث الإرهابي الطائفي في مسقط الأسبوع الماضي كان صادما للجميع. فمن بين كل دول العالم العربي والإسلامي، تبدو عمان البلد الأبعد عن رؤية من يرفع راية داعش وينفذ أجندته الإرهابية الدموية. كان انطباع العمانيين العاديين الأول بعد الحادث أنه إرهاب مستورد، لأن بلدا معروفا بالهدوء والسكينة مثل عمان، من الصعب عليه أن يتقبل أن بعض أبنائه يمكن أن يقدموا على جريمة إرهابية من هذا النوع. لكن الصورة الأولى للمنفذين الثلاثة وثم تسريب الفيديو لهم وإعلان أجهزة الأمن أنهم عمانيون، زاد من وقع الصدمة.

إلى الآن ثمة تكتم عماني على تفاصيل العملية ومنفذيها. لا نعرف عنهم إلا أنهم عمانيون. إلى الآن لا أسماء ولا ألقاب ولا أين يسكنون. لربما فرضت الضرورات الأمنية والتحريات بعض التحسب لأجهزة الأمن. لكن عمان بلد يعرف الناس بعضهم البعض. ولا شك أن كثيرين في مسقط – على افتراض أنهم من أهل المدينة – يعرفون الإخوة الثلاثة. التكتم يرتبط ليس بالجانب الأمني، ولكن بالتبعات المتعلقة بمن يكون هؤلاء ومن أيّ ارتباطات اجتماعية وقبلية، وما هي خلفياتهم، وأين تم تجنيدهم في صفوف داعش. الكثير من الأسئلة لا تزال متروكة للرد عليها من قبل السلطات.

ما يهمنا في الأمر هو كيف ولد هذا التنظيم على أرض التسامح العمانية. لنضع العامل المادي جانبا، فلا يمكن القول بأنهم من فئات اجتماعية فقيرة تستقطبها وعود اليوم الآخر بعد أن سدت بأوجهها أبواب الحياة الدنيا. هذا الأمر يتكرر في الخليج، إذ يذهب أبناء أسر خليجية مرتاحة ماديا إلى مناطق الصراعات بعد أن تم غسل عقولهم، ويحملون معهم من مالهم ومن مال التبرعات لدعم مشروعهم الجهادي. وعمان بلد تسامح وهدوء، ولا توجد صراعات واضحة بين المذاهب. لعل بعض الاحتكاكات تحدث كما شهدنا في أكثر من مناسبة في البريمي أو صلالة. لكنها احتكاكات مرتبطة بتذكير أهل السنة للسلطة التي تعد نفسها إباضية، بأن من الضرورة أخذهم بالاعتبار عندما يتعلق الأمر بمناسبات دينية مثل الأعياد. لا يمكن بأيّ شكل أن يقول عماني موضوعي إن مذهبية السلطة الإباضية تتصادم مع أهل السنة في البلاد. ونفس الشيء يقال عن تعامل السنة والإباضيين مع الشيعة الذين يمثلون أقلية محسوسة في عمان. العمانيون ينتمون إلى مذاهب متعددة، لكنهم ليسوا طائفيين.

كيف يجد تنظيم داعش موطئ قدم له في مثل هذا البلد المتسامح. من الممكن الهروب إلى جواب بسيط بالقول إن الأمر مؤامرة من دولة إقليمية أو أكثر، بعد تميّز الموقف العماني عن بقية دول الخليج في ما يحدث في غزة. لا نريد أن نسأل سؤالا مثل: هل من مصلحة دول الإقليم التي اكتوت بنار القاعدة وداعش أن تستثمر في فتنة أو مؤامرة في عمان على أساس مذهبي أو طائفي؟ لكن من الضروري أيضا أن نتساءل: كيف وجد داعش البيئة لكي ينبت له فرعه في السلطنة وأين تلقت خلية مسقط تدريبها لتستطيع بدءا أن تموّه على وجودها، ثم أن توجه ضربتها باستهداف المصلين، وبعدها أن تقاوم رجال الأمن وأن تقتل وتصيب منهم؟

◄ الحماس الذي يحمل بصمة دينية مهما حاولت نزع الدين عنه، يخلق جوا يتجاوز جو التعاطف مع قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية

لا شك أن البيئة الحاضنة صغيرة ولا تزال في بداياتها. من المشروع التساؤل كيف أن حماسة للبلد ومواقفه من قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية يمكن أن تنقلب عليه وتؤدي إلى إنبات زرع داعش المسموم. لكن هذا هو ديدن حركات الإسلام السياسي، مثلها مثل العقيدة الخمينية. في البداية يتم تقديم القضية الفلسطينية على أنها السبب، لكن سرعان ما تتوارى هذه المبرّرات لصالح المشروع الأصلي، وهو الاستحواذ على مقدرات المنطقة لصالح مشروع إخواني أو داعشي أو خميني.

لعل التعامل مع المسألة بحس أمني فقط لن يمنع تكرار مثل هذه الهجمات، بظروف أخرى ومعطيات مختلفة. المواجهة الأمنية مطلوبة للوصول إلى الخلايا المشكلة وكيف تمكنت من توفير السلاح والإمكانيات الأخرى. الخروج بانطباع أنهم عائلة معزولة وأن الأمر محدود في مثل هذا النطاق، لن يخدم الهدف. فمن المؤكد أن من قام على تشكيل الخلية بدأ بفكرة العائلة لتأمين العملية في بلد غير معتاد على تواجد تنظيمات إرهابية بين ظهرانيه. لكنها كما شهدنا في العراق وسوريا وغيرها من البلدان، سرعان ما يتمكن التنظيم من الانتشار وتوسيع رقعة التجنيد من بيئة الحماس لقضايا مثل قضية غزة.

من الضروري الإشارة أن الإرهاب الذي ضرب في مسقط لا يزال محدودا، وأن البيئة الحاضنة لا تزال صغيرة وفي بداياتها، وأن العمانيين أظهروا موقفا رافضا لمثل هذا الزرع السام في أرض السكينة. لكن الحماية الفكرية للمجتمع تمرّ أول ما تمرّ على منع المزايدين والمتحمسين بوعي أو من دون وعي، من أن يجعلوا الشباب العمانيين متقبلين للفكر المتطرف. في بلد أساسه التسامح والتنوع وتقبل الآخر، فإن أيّ استثمار في الحماس لغايات يقف وراءها الإسلام السياسي، سرعان ما يصبح خطرا داهما على الأمن والسلام. عملية مسقط يجب أن تكون الأولى والأخيرة، لكي ينتهي معها أيّ توالد للبيئة الحاضنة للإرهاب، ولكي تنتهي المقارنة معها بالنموذج السوري.

9