ضجيج مناسباتي
كان كافيا أن يطلب عمدة إحدى البلدات الفرنسية من المسلمين الصيام “دون ضجيج” حتى يملأ العرب الشبكات الاجتماعية ضجيجا بسبب ما قاله، وجهوا له كل أنواع الشتائم، حاكموه وحكموا عليه بجهنم.. أكيد فهو من “فئة الكفار”.
الحقيقة أن العمدة الفرنسي، وبعيدا عن خلفياته أو “ما قصده” لم يخطئ فشهر رمضان، شهر روحانيات يكمن سره في هدوء هو أساسي في علاقة العبد بربه. فإن كنت تريد أن تصلح علاقتك بربك فما دخل الناس فيها، ألا يسمى ذلك أقل شيء نفاقا مع سبق الإصرار. لم يعد البعض يقول “اللهم إني صائم” بل يقول “أيها الناس انظروا إلي إني صائم”.
هذا الصيام يجعل من هذا الشخص شرطة أخلاق على كثيرين ممن يعجبه صيامهم أو ممن لا يصومون أصلا، على الرغم من أن شرطي الأخلاق هذا يفتقر إلى أخلاق رمضان وقد يكون صائما على الطعام والماء فقط وطبعا التبغ الذي يحمله مسؤولية “سوء أخلاقه”.
كثيرون هم المنسدحون تحت المكيفات ممن ينشرون تغريدات على تويتر تطالب بترحيل عمال يعملون تحت شمس حارقة، بتهمة “جرح صيامهم”، ذنبهم الوحيد أنهم شربوا شربة ماء.
وما دمت تعيش تحت سماء العرب عليك أن تألف الصخب والضجيج، استمتع بالجعجعة ودعك من مشاهدة الطحن ورؤية الطحين.
قيل الكثير عن ضجيج العرب وقد يكون ما قاله الكاتب السوري الراحل محمد الماغوط أن “العرب كطائرة الهليكوبتر ضجيجها أكثر من سرعتها” أبلغ وصف.
كما لا ننسى أن مقولة المفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي “العرب ظاهرة صوتية” تعتبر حقيقة مادام صوت عقولنا معطلا وليس لنا من عمل نجيده حد التميز سوى الضجيج.
القصيمي قبل وسائل الاتصال الاجتماعية وقبل الهواتف الذكية وقبل القنوات الفضائية قال “العرب ظاهرة صوتية” لو كان حيا اليوم ماذا كان سيقول؟
يرتبط الضجيج عند العرب بكل مناسباتهم السعيدة منها والحزينة حتى بات العرب، إضافة إلى كونهم ظاهرة صوتية، يعتبرون ظاهرة مناسباتية. عند بعضهم أصبح الضجيج موضة قديمة فقرروا التمرد على واقعهم فتحولوا إلى “خدعة بصرية” انتشرت خاصة مع بروز الشبكات الاجتماعية.
تتمثل هذه الظاهرة خاصة في “سيلفي وفعل الخير خلفي”، فعلى مرأى ومسمع من الجميع بات الناس يتبارون في “فعل الخير” والتقاط الصور للتبجح بها على “إنستغراماتهم” و”تويتراتهم” و”فيسبوكاتهم” وغيرها.
لقد أصبح بعض الناس في حياتنا مثل تلفزيون مشوش يقلقك ويستفزك ولا ترى له سوى صورة مترنحة ولا تسمع له إلا وشوشة!
رغم ذلك يعلم العرب جيدا أن القوي هو الذي يعمل، وهو الذي يُملي قراره، وبالتالي هو الذي يسيطر، والضعيف هو الذي يملأ وقته باللعب والضجيج والنواح!