صُدف خالية من الانتظار تصنع قادة تونس الجدد

حركة النهضة فضلت اختيار الجملي لرئاسة الحكومة لأنه الأقل من بين الأسماء المطروحة عنادا وتجربة، ولأنها تدرك أنها ستكون مجبرة على التعامل مع من ينفذ إملاءاتها.
السبت 2019/11/23
هل يكفي أن يكون شخصا مستقيما في سلوكه

تونس – الحظ يناصر من لا ينتظره، كما الصُدفة تأتي لمن لا يتوقّعها، فهي خالية من الانتظار ومن هوس ترقّب صدور النتيجة لأي شيء ما. هذا ما حصل في تونس مع الحبيب الجملي المكلف من قبل حركة النهضة الإسلامية بتشكيل الحكومة الجديدة.

تسوّق حركة النهضة، وهي تتبرأ من أن يكون الحبيب الجملي أحد مناصريها أو منخرطيها منذ أن كلّفته بتشكيل الحكومة، في ضوء التوازنات التي أفرزتها الانتخابات التشريعية، لخطاب لا يقوم إلاّ على رفع شعارات أخلاقوية لا علاقة لها لا بالفعل السياسي في عُمقه ولا بالرهانات الاقتصادية والاجتماعية الهامة التي تنتظر تونس.

لم يكن الحبيب الجملي قبل أسبوع من منحه مهمة الإشراف على المفاوضات مع الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية قصد تشكيل حكومة، معروفا بالشكل الكافي لا في الأوساط السياسية ولا الإعلامية. الرجل يدخل التحدي الذي يرفعه دون أن يذكر له التونسيون أي مواقف سياسية سواء في فترة النظام القديم أو بعد ثورة يناير 2011.

لم يكن رئيس الحكومة المكلّف أيضا من بين الشخصيات التي طرحت وتم تداولها إعلاميا قبل التكليف الرسمي من الرئيس قيس سعيّد. لم يكن الحبيب الجملي مهووسا بانتظار ما ستؤول إليه خيارات مجلس الشورى لحركة النهضة لإدراكه أن سجلّه السياسي قد لا يرقى إلى ما يحظى به منافسون له من أمثال منجي مرزوق أو الحبيب كراولي أو إلياس الفخفاخ أو توفيق الراجحي، إذن هل كان تكليفه مجرّد مصادفة أو أنه محكوم بحسابات ومناورات سياسية؟

حين انحصر تصويت مجلس شورى حركة النهضة بين ثلاثة أسماء هي الحبيب الجملي والحبيب كراولي ومنجي مرزوق، فضّلت الحركة اختيار أقلّهم عنادا وأقلّهم تجربة وممارسة للفعل السياسي لأنها تدرك أوّلا، أن المرحلة التي تسبق الإعلان عن التركيبة الحكومية، تحتاج من ينفذ خياراتها وتوصياتها وإملاءاتها وولاءاتها وليس من قد يلبي أو يرضخ لضغوط الأحزاب الأخرى المعنية بالحكومة القادمة.

ثانيا، أرادت النهضة الابتعاد عن اسم منجي مرزوق الذي شغل بدوره منصب وزير تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريّض ويشاع عنه أنه كان صاحب شخصية قوية لا ترضخ بسهولة لمقررات الحزب الحاكم.

في كل هذا، يعتبر الجملي بدوره، كونه شغل منصب كاتب دولة في عهد حكومة حمادي الجبالي عام 2012، بأنه إسلامي وبأنه من أنصار النهضة غير البارزين للعيان. تنكر حركة النهضة كل هذا وتدفع في كل ظهور إعلامي لزعيمها راشد الغنوشي أو بعض القيادات الأخرى للتأكيد على أن الجملي شخصية مستقلة، لكنها تسقط أحيانا في مغبّة الاعتراف ولو ضمنيا بأنه “نهضاوي مخفّف” أي أنه لم يشغل مناصب حزبية في الصفوف الأولى للحركة ولكنه معروف بنظافة اليد والاستقامة.

حتى لو صدّق المتابع ما تروجه حركة النهضة عن الجملي، فهل يكفي أن يكون شخصا مستقيما في سلوكه، وأن تكون يداه نظيفتين أو حتى مستقل سياسيا لكي يحكم؟ وهل يعني ذلك أنه بات بإمكان أي شخص أن يكون قادرا بالضرورة على صناعة المُعجزات بعصا سحرية في بلد أرهقته الأزمات وشرخت ديمقراطيته المحاصصة الحزبية؟ هذه هي الأسئلة التي  تشغل الجميع حتى من داخل قواعد حركة النهضة نفسها.

حين خرج الناخبون التونسيون يوم 12 أكتوبر للإدلاء بأصواتهم لم يروا أمامهم في أي معلّقة من المعلقات الانتخابية اسم الحبيب الجملي. كانت خياراتهم سياسية بامتياز. منهم من أعاد الثقة في حركة النهضة، ومنهم من اختار القطع معها بالتصويت لحزب قلب تونس أو لحركة الشعب أو التيار الديمقراطي أو الحزب الدستوري الحر. إذن لم كل هذا الإصرار على معاقبة الناخب بتكليف اسم لا يعرفه لا من قريب ولا من بعيد؟

تحاول حركة النهضة التخلّص من هذا السؤال الشعبي الملح باجترار أسطوانة أن الشرعية مشتتة وأن صناديق الاقتراع لم تمنحها المقاعد الكافية لكي تحكم وحدها بل وتلحف تبريراتها أيضا بهدايا الأحزاب المعنية بتشكيل الحكومة والرافضة لأن يكون نهضويا من سيقود البلاد مستقبلا.

لكن في الحقيقة، كانت أمام الحركة خيارات أخرى غير لعب ورقة “رئيس الحكومة المستقل” المشكوك في مصداقيتها، حيث أتيحت لها الفرصة إما لاختيار شخصية سياسية بارزة من خارجها تكون محل رضا الجميع، كما كان لها أيضا أن تقدم اسما من داخلها لتحكم تحت الضوء لا من خلف الستار شريطة أن تضمن له من الدوائر المقربة منها في البرلمان التصويت على تركيبة الحكومة التي سيطرحها.

إن ما حصل في تونس في السنوات الأخيرة، يدفع علاوة على التدقيق في نظامها السياسي الذي لا ينتج شرعية، إلى طرح استفسارات أخرى عن سمات القائد وعن الخصال التي يجب أن تتوفر به، فهل تحتاج المرحلة القادمة في تونس إلى قائد سياسي محنّك بمؤهلات كلاسيكية كمعرفته بعالم السياسة وبحبكه لعلاقات داخلية ودولية أم تحتاج إلى قائد “تكنوقراط” جرفته الصدفة من حيث لا يدري ليطفو اسمه على أعمدة الصحف والمجلات وتغزو صوره المحطات التلفزيونية؟

ليست هذه المرّة الأولى التي تُصمُّ فيها آذان التونسيين بترديد أسطوانة “رئيس حكومة مستقل”. فحين قدّمت مخرجات الحوار الوطني الذي عقد في أواخر عام 2013 عقب اغتيال المعارضين السياسيين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، رئيس الحكومة مهدي جمعة آنذاك كان الشعار الذي زُوق به اختياره هو أنه مستقل، لكن ما الذي حصل بعد ذلك، فقد اختار رئيس الحكومة المستقل في ما بعد تأسيس حزب أطلق على تسميته “حزب البديل”، لإدراكه أنه لا مكان لأي مستقل في أتون حرب السياسة.

بنفس طريقة مهدي جمعة، أجبر التوافق بين حزب نداء تونس وحركة النهضة عام 2014 على التفاهم حول شخص الحبيب الصيد ليقود المرحلة، لكن أيضا ما الذي حصل، فقد سحبت الثقة من الصيد، لا لشيء وإنما لأن خبرته في الإدارة التونسية لم تشفع له ولأنه بكل بساطة فاقد للسند السياسي.

الرجوع أيضا إلى الكواليس التي سبقت تعيين رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية يوسف الشاهد في شهر مايو 2016، يشي ربّما بما سيحصل مستقبلا للحبيب الجملي.

يُروى أن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي قيل له في عام 2016 وبعد إقالة الحبيب الصيد إن المرحلة باتت سياسية وبامتياز، فاقترح عليه اسم يوسف الشاهد ليس لأنه سياسي محنّك، بل لأنه قيادي في نداء تونس وأنه سيكون الخيار الأمثل والولد المطيع لحزبه ولخيارات قصر قرطاج، لكن ما الذي حصل أيضا، فقد تمرّد الشاهد على قائد السبسي وحاول أن يقدّم نفسه على أنه بات أشبه بمستقل وأن حزبه الوحيد هو تونس وأنه في حل من كل ارتباط بنداء تونس.

مع تواصل الضغوط على حكومته التي وصلت حد المطالبة بإقالته، أدرك يوسف الشاهد أن لعبة “الاستقلالية” لا يمكن أن تحافظ له ولأي أحد على منصبه في الحكومة وأن السياسة هي الأساس في الحكم، فمرتبتها تكون قبل الكفاءة وقبل كل شيء، لذلك توجّه بدوره لتأسيس حزب سياسي “تحيا تونس” شارك به في الانتخابات الأخيرة.

بالتالي، ألا تحيل كل هذه التجارب في سنوات وجيزة إلى تصوّر مستقبل الحبيب الجملي، فحتى وإن نجح في تشكيل الحكومة وحتى إن نالت ثقة البرلمان، فإنه سيبقى أمام الرجل الذي صنعته الصدفة، طريقان لا ثالث لهما؛ فإما أن يسلك مسلك حركة النهضة بتلبية كل طلباتها ومنحها ما تريد من الحقائب الوزارية وهو ما سيؤكّد ولاءه لها أو أنه سيكون مضطرا إلى إحاطة نفسه بحزام سياسي بديل لم يجده بصفته “مستقلا” كي يتفادى كابوس الإقالة أو الاستقالة.

7