صياح
الإنسان هو “أعقل الكائنات المخلوقة، لذا لا يجوز تشبيهه بالوحش”، هذا ما علّق به بعض الأصدقاء على المقال الذي كتبته تحت عنوان “سرّ الوحش البحري”، ماذا لو كانت في هذا التعليق مُضاعفة للوحشية التي آل إليها الكائن البشري شكلا ومضمونا؟
أقول “شكلا”، لأنني في المقال الأخير أشرت تحديدا إلى تبدل ملامح وجوه البشر على النحو الذي تبدلت فيه ومازالت طبائعهم.
إن كان الإنسان أعقل المخلوقات وقد انحدر إلى هذا المستوى من التردّي في كل ما يُشكل إنسانيته، حتى تفشى في تبدّل ملامحه الخارجية، ألا يجعل ذلك منه وحشا أخطر؟
ربما ليس الفن التشكيلي، بل التجريدي هو الأمضى في إظهار الإنسان بوحشيته الحداثية كما ذكرت في المقال السابق، وأوردت كمثال على ذلك مخلوقات الفنان التشكيلي السوري قيس سلمان، وكذلك مخلوقات سبهان آدم “الشنيعة” التي يحار الناظر إليها إن كانت مثيرة للشفقة أو للاشمئزاز.
يعود إلى بالي معرض زرته منذ عدة أشهر، لكنني لم أكتب عنه ليس لأنه لم ينل إعجابي، بل لأنني رأيت فيه على طول وعرض الجدار أعمالا “صماء”، إن صح التعبير، متقاربة جدا من ناحية التشكيل والتعبير، وقفت أمامها حائرة كمن يقف أمام ما يُسمى بالمادة السوداء أو المُظلمة التي يُعتقد أن الكون يتألّف منها.
لوحات بدت وكأنها أصل لتشكّلات وجوه لن تكون لها ملامح بشرية مألوفة حتى لو هي أرادت ذلك، فثمة سكون قدري خضعت له الأعمال طواعية، وأكد على أنّ أي تحولات جذريّة ممكن تخيّلها هي مستحيلة ولن تكون في أفضل حال خارج الإطار العام الذي وضعته لها الفنانة. الأسود في تلك اللوحات لم يكن لونا بقدر ما كان مادة، مادة غير مرئية، هي الظلام بحد ذاته وقد اكتفى بأن يكون كذلك لا نور يزوره ولا بصيص أمل.
الأعمال هي للفنانة الإيرانية المعاصرة فيريا أريانزهاد، أعمال يجدر ذكرها ضمن هذا السياق، قدّمتها الفنانة على أنها تجسد مصهرا للهويات الجديدة، تحوّل الفنانة دون أن يعتقد المُشاهد أنها تقصد الهويات الثقافية المختلفة، وتضيف في تقديم أعمالها بهذه الكلمات “تبدل للهوية الإنسانية هي ظاهرة لا مفرّ من مواجهتها اليوم، نحن في زمن تتمّ فيه التضحية بالبشري ليس باعتبار أنه كائن حيّ، بل باعتباره شيئا من الأشياء.. شيئا تخطى ماديته فانتهى به المطاف إلى قلب الظلام”.
أعمال الفنانة تذهب إلى ما يقع خلف أي تشكيل فني يجسّد تحلّل وجه الإنسان، تذهب أولا إلى تظهير الوصول إلى نهاية السيرة البشرية/التاريخية عبر الصمت المُستشري في “تفحّم” المادة الكاربونية السوداء التي تستخدمها وتنشرها في لوحاتها، وثانيا عبر سكب التقاسيم الهندسية المائعة من نسغ تلك المادة الغرائبية، التي يصعب على المُشاهد أن يراها مجرّد لون من الألوان، لأنها الوجه البشري/التجريدي والجديد الذي نهابه، ولكن نسعى إليه بكل ما أوتينا من قوة.
أعطت الفنانة فيريا أريانزهاد عنوان “صياح” لمعرضها فضاعفت بكلمة واحدة من درامية الصمت الذي تتألف منه لوحاتها، إنه صياح أصمّ لا هو نتيجة وجع جسدي أو روحي ولا هو تعبير عن احتجاج، بل هو استسلام كامل للأمر الواقع وهو بكليته ينطلق بصريا وبوضوح ممّا حذّر منه يوما الخبير التقني والمعلوماتي الأميركي إدوارد سنودن الذي ارتبط اسمه بسلسلة من كشف لفضائح معلوماتية هزّت الرأي العام الأميركي والعالمي على حد السواء، لأنها وضعت النقاط على مسائل عديدة لم تكن في الحسبان من قبل.
قال سنودن “السؤال أصبح الآن ليس ما ستكون عليه أيّ قصة تالية، بل السؤال هو كيف سنتصرف حيالها؟”، يبدو أن السؤال قد وجد الإجابة الشافية: سنتصرف كأعقل كائنات اختارت أن تكون وحوشا.
ناقدة لبنانية